تحديد نوع الجنين (دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي)

وليد عبدالنبي صابر شعيب1 سعد منصور ابراهيم السياف1

1 كلية القانون القبة قسم الشريعة جامعة درنة، ليبيا.

بريد الكتروني: waleedshuieb@gmail.com

HNSJ, 2024, 5(11); https://doi.org/10.53796/hnsj511/22

تحميل الملف

تاريخ النشر: 01/11/2024م تاريخ القبول: 15/10/2024م

Citation Method


المستخلص

يقصد بتحديد نوع الجنين أي تحديد جنسه وكل ما يقوم به الإنسان من الأعمال والإجراءات التي يهدف من خلالها اختيار ذكورة الجنين أو أنوثته وهي ليست قضية حادثة بل مسألة تضرب بجذورها في القدم وتهدف هذه الأعمال والإجراءات إلى اكتشاف واختيار الطرق المناسبة التي تتيح للوالدين اختيار جنس مولودهما ،وقد تناول هذا البحث شرحا لبعض أنواع الطرق الطبية وغير الطبية لتحديد جنس الجنين مع بيان الحكم الفقهي والقانوني لهذه المسألة ودراسة الضوابط الشرعية لها وتقييدها بعدة ضوابط قانونية مستندة على الأحكام الشرعية ،وظهر للباحث بأن الاهتمام بتحديد جنس الجنين ليست قضية حادثة فقد أشغلت الناس منذ سالف الزمن وأن الأصل فيها الإباحة والجواز و أن الواقع العملي في عملية تحديد جنس الجنين يُظهر إشكاليات تحتاج إلى معالجة شرعية وقانونية لدرء المفاسد التي تنتج عن هذه المسألة . وبهذا تظهر أهمية نشر الوعي الفقهي والقانوني في استخدام طرق تحديد نوع الجنين مع الحث على السعي لسن القوانين لترشيد عملية تحديد نوع الجنين والسير على خُطى الدول العربية والإسلامية في هذا المجال.

Research title

Determining the type of fetus A comparative study between Islamic jurisprudence and situational law

Published at 01/11/2024 Accepted at 15/10/2024

Abstract

Determining the gender of the fetus means determining its gender and all the actions and procedures that the man apply in order to choose the gender of his fetus , which is not an accidental issue, but an issue rooted in antiquity and these actions and procedures aim to uncover and choose the appropriate methods that allow parents to choose the sex of their newborn.

This research dealt with an explanation of some types of medical and non_medical methods to determine the sex of the fetus with the statement of the Fiqhi and legal ruling on this issue. Moreover, the Shari”a controls were studied for that issue which were restricted to several legal controls based on the Shari”a rulings and showed the researcher that the interest in determining the sex of the fetus is not an accidental issue and that the original in it is being permissible.

The practical reality in the process of determining the sex of the fetus shows problems that need to be addressed legitimately and legally to prevent the evils that result from this issue and thus shows the importance of spreading Fiqh and legal awareness in the use of methods to determine the gender of the fetus. Finally, urging the legal uthority to seek to enact laws to rationalize that process and follow in the footsteps of other Arab and Islamic countries in this field.

المقدمة

الحمد لله الذي خلق الزوجين الذكر والأنثى، من نطفة إذا تمنى، خلق كل شيء فقدره تقديرًا.

قال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ([1])، له الحمد فكل شيء خلقه موزون، قال تعالى: وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ([2])..

له الحكمة البالغة، والقدرة النافذة، تبارك الله أحسن الخالقين، وأشهد أنّ لا إله إلاّ الله، الملك الحق، ذو القوة المتين، وأشهدُ أنّ محمدًا عبد الله ورسوله الأمين، صلَّى الله عليه وعلى آله الطيبين وأصحابه الغر الميامين، وعلى من اتبع سنّته بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد،،،

فإنّ الله تبارك وتعالى فطر القلوب على حب الولد، وقد قيل في تصوير حب الأولاد ومنزلتهم: الأولاد ثمار القلوب وعماد الظهور.

وقد قال الشاعر([3]):

يا حَبَّذا ريحُ الولدِ

**

ريحُ الخُزامى في البلدْ

أهكذا كلُّ ولد

**

أم لم يلدْ مثلي قبلي أحدْ؟!

فالأولاد ذكورًا وإناثًا هبة من الله تعالى لبني آدم، قال جلّ في علاه: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ* أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا([4]).

ومن رحمة الله وعظيم حكمته أنّ نوّع الخلق، فجعل الخلق كما قال تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ([5])، وقوله تعالى: وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا([6]).

ولا ريب أنّ رغبة الوالد في أن يكون الولد من جنس معين، وتفضيل أحد الجنسين على الآخر في الذرية أمر قائم منذ القدم، فما زال الناس يفضلون ويميلون إلى كون الولد من أحد الجنسين ذكرًا كان أو أنثى؛ لاعتبارات مختلفة متنوع؛ إما بسبب الحاجة إلى الجنسين أو أجل اعتقاد سائد في فضل أحدهما وعيب الآخر ونقصه، أو لما يخشى من الضرر بأحدهما، أو ما قد يؤمل من النفع من أحدهما، كل ذلك وغيره من المسوغات يُبرر به ذلك التفضيل وتلك الرغبة.

وقد سلك الناس لتحقيق تلك الرغبة في تحديد جنس المولود مسالك عديدة، وطرق متنوعة قديمة وحديثة.

وقد كتب جملة من الباحثين المتخصصين في الفقه الإسلامي والطب عدة بحوث فقهية وطبية، تناولوا فيها الموضوع بالبحث في جانبه الطبيـ وكذا في جانبه الفقهي.

وأملي في هذا البحث أن أشارك إخواني الباحثين في تجلية حكم تحديد جنس الجنين، من خلال دراسة مقارنة بين رأي الشرع في هذا الموضوع وبين أحكام القانون الوضعي.

خطة البحث

تشمل خطة هذا البحث على ثلاثة مباحث وخاتمة، وفيما يلي بيان هذه الخطة بالتفصيل:

المبحث التمهيدي.

المبحث الأول: التعريف بتحديد جنس الجنين وحكمه فقهًا وقانونًا.

المطلب الأول: التعريف بتحديد جنس الجنين وحكمه.

المطلب الثاني: الضوابط الشرعية لتحديد جنس الجنين.

المبحث الثاني: نظرة شرعية في طرق تحديد جنس الجنين.

المطلب الأول: الطرق والوسائل العامة غير الطبية لتحديد جنس الجنين.

الفرع الأول: النظام الغذائي.

الفرع الثاني: استعمال الغسول الكيميائي المناسب.

الفرع الثالث: الجدول الصيني والطريقة الحسابية.

المطلب الثاني: الطرق الطبية لتحديد نوع الجنين.

الفرع الأول: الزرع المجهري.

الخاتمة: وفي خاتمة هذا البحث أُقيد أبرز النتائج التي توصلت إليها في النقاط التالية:

  • الأولى: الاهتمام بتحديد جنس الجنين والبحث عن سُبل تحقيق ذلك، ليس قضية حادثة بل هي مسألة قديمة.
  • الثانية: الأصل في تحديد جنس الجنين الإباحة والجواز.
  • الثالثة: الواقع العملي في عملية تحديد جنس الجنين، يظهر هناك إشكالية تحتاج إلى معالجة شرعية وقانونية.
  • الرابعة: الاحتياج إلى ضوابط مانعة من مفاسد تحديد جنس الجنين، في ألا تكون عملية تحديد جنس الجنس سياسة عامة، وأن يقتصر استعمالها على الحاجة.

المبحث التمهيدي

تحديد جنس الجنين في المواضيع التي لها جذور ضاربة في القدم، فقد حاول الناس استعمال طرق مختلفة على مر الزمن لتحديد جنس المولود؛ وذلك لاعتبارات مختلفة لديهم.

وشرعًا بيّنت الأحكام الشرعية المستندة إلى آيات قرآنية وأحاديث صحيحة عن النبي –، أنّ الإذكار والإيناث في الجنين أمر يستند إلى سبب طبيعي معلوم كسائر الأسباب الطبيعية التي متى قدِر الخلق إلى إيجادها، فقد أدركوا المقدمة التي يمكن أن يصلوا بها إلى النتيجة.

ونظرًا لما قد يسببه الاستعمال الخاطئ لهذه الرخصة الشرعية في جواز استخدام الطرق المختلفة لتحديد جنس الجنين من مفاسد؛ كاختلاط الأنساب وغيرها، وجب تقييد هذه الرخصة بعدة ضوابط قانونية مستندة على الأحكام الشرعية.

المبحث الأول

التعريف بتحديد جنس الجنين وحكمه فقهًا وقانونًا

المطلب الأول: التعريف بتحديد جنس الجنين وحكمه

المقصود بتحديد جنس الجنين هو ما يقوم به الإنسان من الأعمال والإجراءات التي يهدف من خلالها اختيار ذكورة الجنين أو أنوثته.

وبهذا التعريف لعملية تحديد جنس الجنين يتبين أنها ليست قضية حادثة، بل هي مسألة تضرب بجذورها في القدم. وقد أشغلت الناس منذ سالف الزمن فطلبوا لإدراكها السبل. ففي سنة خمسمائة قبل الميلاد توصلت مدارس الطب الهندية إلى أنه يمكن التأثير على جنس الجنين في بعض الحالات؛ بفعل الطعام أو العقاقير كما ذكر بعض المؤرخين([7]).

كما ذكروا أيضًا أنّ علماء الطبيعة كأرسطو قد تناولوا قضية تحديد جنس الجنين بالمناقشة في القرن الثاني الميلادي، حيث ناقش أرسطو النظرية التي تقول: إنّ جنس الجنين تُعَيّنه حرارة الرحم أو تغلُّب أحد عنصري التكاثر على العنصر الآخر، وقدّم نظرية أخرى في تفسير ذلك([8]).

ومن هذا يتبين أنّ الجديد في قضية تحديد جنس الجنين إنما هو فيما طرأ من تقدم في الوسائل والطرق التي من خلالها يمكن تحديد جنس الجنين، سواءً أكان ذكرًا أم أنثى.

وقبل النظر في الوسائل والطرق التي تستعمل في تحديد جنس الجنين وأحكامها، نحتاج إلى بيان الأصل في تحديد جنس الجنين.

ويمكن القول إنّ لأهل العلم في تحديد جنس الجنين قولين([9]):

  • القول الأول: إنّ الأصل في العمل على تحديد جنس الجنين الجواز([10])، وأنه لا مانع منه شرعًا.
  • القول الثاني: إنّ العمل على تحديد جنس الجنين لا يجوز، وهو ما يُفهم من فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية، حيث جاء في فتوًى للجنة “شأن الأجنة من حيث إيجادهم في الأرحام وذكورتهم وأنوثتهم هو من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى([11]).

ويمكن أن يستدل للقول بأنّ الأصل جواز تحديد جنس الجنين بعدة أدلة:

  • الدليل الأول: إنّ الأصل في الأشياء الإباحة والحل حتى يقوم دليل المنع والحظر؛ في قول جمهور أهل العلم([12]).
  • الدليل الثاني: إنّ طلب جنس معين في الولد لا محظور فيه شرعًا. فالله تعالى قد أقرَّ بعض أنبيائه الذين سألوه في دعائهم أن يهب لهم ذكورًا من الولد، فهذا نبي الله إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- سأل الله تعالى أن يرزقه ولدًا ذكرًا صالحًا، فأجابه الله تعالى. قال تعالى فيما قصَّه عن إبراهيم: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ*فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ﴾([13])، ولو كان هذا الدعاء سؤالًا لمحرم لكان محرمًا ولمنعه الله تعالى ولما أقرَّه؛ فإنّ الدعاء بالمحرم محرم.
  • الدليل الثالث: أنّ النبي — بيَّن السبب الطبيعي الذي يُوجِب الإذكار أو الإيناث بإذن الله([14])، ففي صحيح الإمام مسلم من حديث ثوبان أنّ النبي — أجاب اليهودي الذي سأله عن الولد. فقال–: «ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فَعَلا مَنِيُّ الرجل مَنِيَّ المرأة أذْكرا بإذن الله. وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله»([15]).

وقد نُوقش هذا الدليل من جهة أنّ الإذكار والإيناث ليس له سبب طبيعي، بل هو مستند إلى مشيئة الخالقة سبحانه، فقد ردّ الله تعالى ذلك إلى محض مشيئته، فقال: ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ* أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً([16]).

ومن جهة ثانية، إنّ أخذ العبد بالأسباب التي جعلها الله تعالى وسيلة لإدراك مسبباتها، سواءً أكان ذلك في تحديد جنس الجنين أم في غيره لا يتضمن منازعة لله تعالى في خلقه ومشيئته وتصويره، وذلك أنّ كل ما يكون من العبد لا يخرج عن تقدير الله ومشيئته وخلقه، كما قال تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾([17])، والإيمان بهذا لا يلغي مشيئة العبد وعمله كما دلّ على ذلك الكتاب والسُنّة واتفاق سلف الأمة، فالنصوص دالة على إثبات مشيئة العباد وفعلهم([18]).

أدلة القول الثاني بأنّ العمل على تحديد جنس الجنين لا يجوز.

  • الدليل الأول: إنّ العمل على تحديد جنس الجنين ضرب من ضروب تغيير خلق الله تعالى الذي هو من عمل الشيطان كما، دلّ عليه قوله تعالى:﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾([19]). وكذلك ما رواه الشيخان([20]) من حديث عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: “لعن الله الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله تعالى مالي لا ألعن من لعن النبي –“. فإذا كان التغيير في صورة الخلقة محرمًا فكيف بالتغيير في الجنس؟ لاشك أنه أحق بالتحريم، ويُجاب على هذا بعد التسليم، وذلك أنّ تحديد جنس الجنين لا يدخل في تغيير خلق الله تعالى.
  • الدليل الثاني: أنّ القول بجواز العمل على تحديد جنس الجنين يفضي إلى عدة مفاسد ومخاطر فيها:
  1. الإخلال بالتوازن الطبيعي البشري في نسب الجنسين الذي أجراهُ الله تعالى في الكون لحكمةٍ ورحمةٍ، فإنَّ كثيرًا من الناس قد يميل إلى جنس الذكورِ في المواليدِ لذلك: ((حذَّر خبراء في مجال الأخلاقيات من مخاطرِ وقوع اختلالٍ سكانيٍّ بسبب هذه الطريقة، فضلًا عن تجاوزاتٍ تسمح باختيار مميزات الأطفال الجسدية. ففي الصين والهند، حيث يفضل الأهل إنجاب الذكور، مما إلى أدَّى إجهاض الأجنة الأنثى وحتى قتل الأطفال إلى نقص في الفتيات))([21]). ويعزّزُ هذا ما جاء في تقرير اللجنة المعنية بحقوق الإنسان في الأمم المتحدة حول كوريا ((وما يُثيرُ القلق إلى حدٍّ كبيٍ هو ممارسة تعيين جنس الجنين، والازدياد غير المتناسب في نسبة البنين إلى البنات))([22]).
  2. فتحُ المجال أمام العبث العلمي في خلق الإنسان وتكوينه، وهو أمرٌ خطير وشؤم عاقبته على البشرية.
  3. من المفاسد الكبرى الناتجة عن هذه العملية اختلاط الأنساب([23]).

وبالنظر إلى ما ذكر من المفاسد المترتبة على القول بجواز العمل على تحديد جنس الجنين، يتبيّن أنّ هذه المفاسد ناتجة من سوء استعمال أو عن أمور ذات صلة بالعملية ذاتها، فعلى سبيل المثال ما ذكر من شواهد اختلال في الصين وكوريا هو ناتج عن قانون التنظيم الحكومي للنسل الذي يمنع أكثر من ولد، فيضطر الناس إلى العمل على تحديد جنس المولود؛ نظرًا لعم إمكانية الحمل مرة ثانية([24]).

وكمثال آخر على دور القانون في التحكم والحد من المخاطر أو المفاسد ما اقترحته الحكومة الماليزية من مشروع قانون يحظر “اختيار جنس المولود قبل ولادته، وذلك بدعوى أنّ هذا العمل قد يسفر عن اختلالات اجتماعية”([25]).

المطلب الثاني: ضوابط في تحديد جنس الجنين

بناءً على التقارير والأخبار عن حال الناس مع ما أفرزه التطور في عملية تحديد جنس الجنين تظهرُ أنّ هناك إشكالية تحتاج إلى معالجة شرعية وقانونية واجتماعية، لذلك كانت الضوابط المانعة من مفاسد تحديد جنس الجنين، والتي يمكن إيجازها فيما يلي:

  • الأول: ألَّا تكون عملية تحديد جنس الجنين قانونًا ملزمًا، وسياسةً عامةً، وقصرُ الجواز على تحقيق الرغبات الخاصة للأزواج في اختيار جنس الجنين([26]).
  • الثاني: قصرُ عملية تحديد جنس الجنين بما إذا دعت إليه الحاجة، أمَّا في حال عدمها فترك الأمر على طبيعته دون تدخلٍ. ومن وسائلِ ضبط الاستعمال الراشد لهذه العملية ما تطبقُهُ بعضُ الدول التي تأذنُ بإجراء هذه العملية، من قيود صارمة على المراكز الطبية، فعلى سبيل المثال في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية لا تقبلُ طلبات تحديد الجنس، إلا من أُسر لديها أطفال من الجنس الآخر، أو في حالة الأمراض الوراثية([27]).
  • الثالث: اتخاذ الضمانات اللازمة والتدابير الصارمة لمنع أيّ احتمال لاختلاط المياه المفضِي إلى اختلاط الأنساب.
  • الرابع: المراقبة الدائمة من الجهات ذات العلاقة لنسب المواليد.
  • الخامس: أن يكون تحديد جنس الجنين بتراضي الوالدين.
  • السادس: اعتقاد أنّ هذه الوسائل ما هي إلا أسباب لا تخرج عن تقدير الله.

المبحث الثاني

نظرة شرعية في طرق تحديد جنس الجنين

لقد سلك الناس منذ زمن بعيد طرقًا عدة ومسالك شتى لاختيار جنس موالديهم، وبالنظر إلى الأسباب والوسائل التي تستعمل وتتخذ لتحديد جنس الجنين يمكن القول أنها ترجع إلى قسمين.

  • الأول: طرق ووسائل عامة غير طبية.
  • الثاني: طرق ووسائل طبية.

ولكي نصل إلى حكم هذه السُبل والطرق، نحتاج إلى النظر في مدى مراعاة هذه الطرق المختلفة للضوابط والمعايير التي تميز الحلال من الحرام في عملية تحديد جنس الجنين، وهذا ما سيتناوله المطلبان التاليان:

المطلب الأول: الطرق والوسائل العامة غير الطبية لتحديد جنس الجنين

الفرع الأول- النظام الغذائي:

ورد في بعض الأبحاث أنّ لتغذية المرأة تأثيرًا في عملية تحديد جنس المولود؛ حيث تسبب بعض الأغذية تهيئة خاصة للرحم من خلال زيادة مواد معينة في الرحم وخفض نسب مواد |أخرى ينتج عنها التلقيح بالجنس المطلوب([28]).

ومن هذا العرض الموجز لهذه الطريقة؛ يتبيّن أنه ليس فيها ما يُوجب المنع والتحريم، بل هي من جملة الأسباب المباحة؛ لتحقيق الرغبة في جنس المولود.

الفرع الثاني- استعمال الغسول الكيميائي المناسب:

هذه الطريقة تتلخص في إحداث موازنة بين الوسط الحامضي الذي هو أكثر ملاءمة للحيوان المنوي الأنثوي، والوسط القاعدي الذي يناسب الحيوان المنوي الذكري، لذلك بعض النساء يستعملن دشًا مهبليًا حامضي أو قاعدي لتهيئة الرحم بالوسط الكيمائي المناسب للجنس المرغوب فيه([29]).

وهذه الطريقة كسابقتها في الحكم، ليس فيها ما يخرجها عن أصل الإباحة.

الفرع الثالث- الجدول الصيني والطريقة الحسابية:

حقيقة الجدول الصيني هو محاولة إيجاد علاقة فلكية بين جنس الجنين وعمر أمه وعمر الجنين وشهر التلقيح، في طريقة معقدة، تبنى على فرضيات فلكية لا ترتكز على أساس علمي، وهذه الطريقة لا تجوز، لما اشتملت عليه من اعتقاد جاهلي، وعمل المنجمين والعرافين([30]).

وقد جاء في فتوى مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه، حيث جاء في فتواهم: ((فلا يجوز اعتماد هذه الطريقة أو غيرها، مما يشبهها كالجدول الصيني المذكور في السؤال لمعرفة أمر غيبي؛ كتحديد الجنين أو غيره، والاعتماد على هذه الطريقة من جنس أعمال العرافين والمنجمين الذين يجعلون للأيام والشهور وأسماء الأشخاص تأثيرًا في الخلق ووسيلة إلى معرفة أمور الغيب، وهذا من أعظم المحرمات؛ لأنّ ذلك من الشرك القبيح الذي نهى الله عنه)).

المطلب الثاني: الطرق الطبية لتحديد جنس الجنين

الفرع الأول- الزرع المجهري:

يتم فصل الحيوانات المنوية الذكرية عن الأنثوية بعدة طرق؛ منها ما يعتمد على الغربلة أو الطرد المركز، ومنها ما يعتمد على اختلاف الشحنات الكهربائية، وهناك طريقة حديثة أكثر دقة وهي الاعتماد على محتويات المادة الوراثية (DNA)، ثم تطور الأمر إلى تقنية فصل الأجنة، وهي من أنجح الوسائل. بعد فصل الحيوانات المنوية وفرزها يتم التلقيح؛ إما عن طريق التلقيح الصناعي، أو عن طريق أطفال الأنابيب التلقيح المجهري([31]).

وأما عن حكم هذه الطرق الطبية على تنوعها واختلافها ما ذكره العلماء في مسألة التلقيح الصناعي وأطفال الأنابيب، وقد أصدر المجمع الفقهي فيها قرارًا تضمن جواز الصورتين التاليتين:

  • الأولى: أن تؤخذ نطفةٌ من زوج وبويضة من زوجته ويتم التلقيح خارجيًّا ثم تزرع البويضة الملقحة في رحم الزوجة.
  • الثانية: أن تؤخذ بذرة الزوج وتحقن في الموضع المناسب من مهبل زوجته أو رحمها تلقيحًا داخليًا.

وكذا في الدول العربية تمّ سن القوانين فيما يخص هذا الموضوع، كما حصل في المملكة الأردنية الهاشمية ووفقًا للمجلس الأعلى للقضاء الذي أصدر مشروع قانون بتاريخ 24/1/2010م، حيث حظّر مشروع القانون استخدام التقنيات البطية التي تفصل الجنين الأنثوي عن الذكري قبل زراعتها في التجويف الرحمي، حيث نصّت الفقرة (أ) من المادة (10) على أنه: “يحظر استخدام التقنيات الطبية المساعدة في انتقاء الجنس، ويستثنى من الحظر الأسباب التي تتعلق بالأمراض الوراثية المرتبطة بجنس الجنين”.

ورتب مشروع القانون عقوبة لمن يخالف هذا النص، بالحبس مدة لا تقل عن سنة وبغرامة مالية لا تقل عن ألف دينار، ولا تزيد عن ثلاثة آلاف دينار (المادة 19/ب).

هذا وكان مجلس الإفتاء الأردني وبقراره رقم (120) 5/2008 والصادر بتاريخ: 10/7/2008م قد حرّم هذا النوع من العمليات التي تحدد جنس الجنين، فجاء في معرض تعليقه على مسودة القانون الأول لعام 2007م، قال: “يرى المجلس شطب البند الأول والثاني من الفقرة (ب)، والتي تنص على جواز تحديد جنس الجنين في حالة وجود مواليد من ذات الجنس يزيد عددهم عن ثلاثة أطفال؛ لأنّ الأصل في المسلم أن يرضى بقضاء الله وقدره، ولابأس من الإبقاء على البند الثالث من الفقرة (ب) الذي ينص على: “لأسباب طبية تتعلق بالأمراض الوراثية المرتبطة بجنس المولود؛ لأنّ هذا من العلاج المُباح شرعًا”([32]).

فجاء في قرار المجلس فيما يخص هاتين الصورتين، “فقد رأى مجلس المجمع أنه لا حرج من اللجوء إليهما عند الحاجة، مع التأكيد على ضرورة أخذ كل الاحتياطات اللازمة”([33]).

الخاتمة

وفي خاتمة هذا البحث أقيد أبرز النتائج التي توصلت إليها من خلال البحث، وأضع بعض التوصيات في النقاط التالية:

  1. الاهتمام جنس الجنين وتحديده، والبحث عن سُبل ذلك ليس قضية حادثة، والجديد فيها هو ما طرأ فيها من تقدم في الوسائل والطرق.
  2. الأصل في تحديد جنس الجنين الإباحة والجواز؛ لقوة أدلة الجواز.
  3. الواقع العملي في عملية تحديد جنس الجنين يظهر هناك إشكالية تحتاج إلى معالجة شرعية وقانونية، وذلك من خلال الضوابط المانعة من مفاسد تحديد جنس الجنين.
  4. يمكن إجمال تلك الضوابط المقترحة في ألا تكون عملية تحديد جنس الجنين سياسة عامة؛ لئلا يُفضي إلى اختلال في التوازن الطبعي في نسب الخلق واختلاط الأنساب.
  5. الوسائل التي تستعمل لتحديد جنس الجنين ترجع إلى قسمين: وسائل طبية، ووسائل غير طبية.
  6. الطرق العامة الغير طبية؛ كالنظام الغذائي والغسول الكيميائي، لا تعدو كونها أسبابًا مباحةً لا محظور فيها.
  7. الطرق الطبية التي يسعى من خلالها إلى تحديد جنس المولود على اختلافها، ولا حرج من اللجوء إليها عند الحاجة؛ مع التأكيد على ضرورة الأخذ بالضوابط.
  8. الكثير من دول العالم سعت إلى سن قوانين لترشيد استعمال هذه العملية ومنع حدوث الاختلال في نسب الجنين، كما فعّلت الحكومة الماليزية، حيث اقترحت مشروع قانون يحظر “اختيار جنس المولود قبل ولادته”، ونفس المشروع كان مقترحًا في الصين. أما عن الدول الكبرى مثل: الولايات المتحدة وبريطانيا، فقد وضعت بعض الضوابط والقيود الصارمة على المراكز الطبية التي تقوم بإجراء هذا النوع من العمليات.
  9. الحث على السعي لسن قوانين لترشيد عملية اختيار جنس الجنين والسير على خطى الدول العربية والإسلامية الأخرى، كدولة ماليزيا وتفعيل هذه القوانين في دولة ليبيا.

قائمــة المراجـــع

أولاً: القرآن الكريم.

ثانيًا: مراجع الحديث.

  1. العسقلاني: شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد بن علي بن محمود بن أحمد بن حجر بن أحمد العسقلاني، المتوفى في (852هـ)، فتح الباري وشرح صحيح البخاري، 11/170، دار المعرفة للطباعة.
  2. الطحاوي: أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة الأزدي الطحاوي، المتوفى في (32هـ)، شرح مشكل الآثار، ادر الكتب العلمية.
  3. البخاري: الإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، المتوفى سنة (256هـ)، صحيح البخاري، دار الفكر، بيروت.

ثالثًا- مراجع أصول الفقه:

  1. الجصاص: أحمد بن علي الرازي الجصاص، المتوفى سنة (370هـ)، الفصول في الأصول، تحقيق الدكتور: عجيل جاسم النمشي، الطبعة الأولى، 1405هـ.
  2. الرازي: فخر الدين محمد بن عمر بن الحسن الرازي، المتوفى سنة (606هـ)، المحصول في علم الأصول، تحقيق: طه جابر فياض العلواني، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1412هـ.
  3. ابن النجار الحنبلي: تقي الدين أبو البقاء محمد بن أحمد بن عبدالعزيز بن علي الفتوحي، المتوفى سنة (972هـ)، شرح الكوكب المنير، مكتبة العبيكان.

رابعًا- مراجع افلقه الإسلامي:

  1. ابن تيمية: أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبدالحليم بن تيمية، المتوفى سنة (828هـ)، مجموع الفتاوى الكبرى، دار الكتب العلمية.

خامسًا- المراجع الإلكترونية:

  1. www.emro.who.int/ahsn/presentations/Day33/Drltelali.
  2. www.akhbar.ma1-is8-6.
  3. www.wonews.net/ar/jnd.ex.php.

سادسًا- مراجع أخرى:

  1. ديل ديورانت: فيلسوف ومؤرخ أمريكي ر 1975، وكتاب قصة الحضارة، الجزء الثاني.
  2. لاندروشيتلس: دكتور أمريكي، ولد في 1909م وتوفي 2003م، كيف تختار جنس مولودك.
  3. عبدالرشيد قاسم: اختيار جنس الجنين: دراسة فقهية طبية، مطبعة دار الأسدي، مكة.
  4. المنظمة الإسلامية للعلوم البطية، الندوة الأولى، 1983م.
  5. مجمع الفقه الإسلامي، قرارات وتوصيات، الدورة الثالثة، عمان- الأردن، 1407هـ- 1986م.
  6. صحيفة الشرق الأوسط، العدد 9891، ديسمبر 2005م.
  7. صحيفة الرياض، العدد 13883، 28 يونيو 2006، مؤسسة اليمامة الصحفية.
  8. دراسات فقهية في قضايا طبية معاصرة.
  9. اللجنة المعنية بحقوق الإنسان، الجمعية العامة، الدورة الخامسة والخمسون، الملحق رقم (40).

Margins:

  1. () سورة القمر، الآية: 49.

  2. () سورة الحجر، الآية: 21.

  3. () الدراري في ذكر الذراري، ص23.

  4. () سورة الشورى، الآيات 49-50.

  5. () سورة آل عمران، الآية: 14.

  6. () سورة الكهف، الآية: 46.

  7. () كتاب قضية الحضارة، ج2، ص447.

  8. () كتاب قصة الحضارة، ج8، ص295؛ كيف تختار جنس مولودك، للدكتور لاندروم والدكتور دافيد، ص57-73.

  9. () وقد ذكر بعض الباحثين قولًا ثالثًا؛ وهو التوقف، ولم أذكره في الأقوال؛ لكونه لا يتضمن إضافة؛ لأنّ غايته عدم اتضاح الحكم للمتوقف لسبب من الأسباب، وقد نسب التوقف في هذه المسألة للدكتور توفيق الواعي، والدكتور عمر الأشقر. ينظر: المسائل الطبية المستجدة 1/232.

  10. () ينظر: المسائل الطبية المستجدة 1/228؛ اختيار جنس الجنين دراسة فقهية طبية ص68-72؛ ثبت أعمال الندوة الأولى للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية سنة 1983م، ص 37-44، 94، 349؛ الموقع الإلكتروني التالي:

    www.emro.who.int/ahsn/Presentations/Day3/DrHelali.ppt

  11. () اختيار جنس الجنين دراسة فقهية طبية، ص74.

  12. () ينظر: الفصول في الأصول للجصاص، 3/252؛ نشر البنود شرح مراقي السعود، ص20؛ المحصول في علم الأصول، 6/97؛ شرح الكوكب المنير، 1/325.

  13. () سورة الصافات، الآيات: 100-101.

  14. () ينظر: شرح مشكل الآثار، 1/89؛ فتح الباري، 11/1.

  15. () كتب الحيض، باب: صفة مني الرجل ومني المرأة، رقم 315.

  16. () سورة الشورة، الآيات: 49-50.

  17. () سورة الإنسان، الآية: 30.

  18. () مجموع فتاوى شيخ الإسلامي ابن تيمية، 8/393، 459.

  19. () سورة النساء، الآية: 119.

  20. () رواه البخاري، كتاب اللباس، باب: المتفلجات للحسن، رقم (5931)؛ ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة، رقم (2125).

  21. () www.akhbar.ma/isB-6.

  22. () تقرير اللجنة المعنية بحقوق الإنسان، الجمعية العامة، الدورة الخامسة والخمسون، المحلق رقم (40) (A/55/40)، ص35.

  23. () المسائل الطبية المستجدة، 1/232.

  24. () جاء في جريدة الشرق الأوسط، العدد (9891)، الثلاثاء 26 ذو القعدة 1426هـ 27 ديسمبر 2005م.

  25. () جريدة الرياض، العدد (13883)، الأربعاء 2 جمادي الآخر 1427هـ 28 يونو 2006م.

  26. () جريدة الرياض، العدد (13883)، الأربعاء 2 جمادي الآخر 1427هـ 28 يونو 2006م.

  27. () دراسات فقهية في قضايا طبية معاصرة، 2/880. www.syria-news.com/index.php

  28. () كيف تختار جنس مولودك للدكتور: لاندروم والدكتور دافيد، ص142-146، هل تستطيع اختيار جنس مولودك للدكتور خالد بكر، ص47-59.

  29. () كيف تختار جنس مولودك للدكتور: لاندروم والدكتور دافيد، ص22-224.

  30. () هل تستطيع اختيار جنس مولودك للدكتور خالد بكر، ص16-22.

  31. () الوراثة والإنسان، ص164؛ دراسات فقهية في قضايا طبية ومعاصرة، 2/859-861؛ كيف تختار جنس مولودك للدكتور: لاندروم والدكتور دافيد، ص222-224.

  32. () الموقع الإلكتروني: www.wonews.nat/ar/jndex.php.

  33. () قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي، ص74-76؛ الدورة الثالثة، مجمع الفقه الإسلامي المنعقدة بعمّان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8-13 صفر 1407هـ، 11-16، أكتوبر 1986م.