مفهوم المواطنة بين محاضير بن محمّد ونور خالص مجيد

د. كمال بالهادي1

1 باحث في الحضارة العربية الإسلاميّة

Email: belhedi18@gmail.com

HNSJ, 2024, 5(7); https://doi.org/10.53796/hnsj57/29

Download

تاريخ النشر: 01/07/2024م تاريخ القبول: 18/06/2024م

المستخلص

عند الاطّلاع على موضوع الندوة العلمية الدولية الموسومة، بـ” المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر”، تعتري الباحث رغبة في المساهمة الفكرية في موضوع نعتقد أنّه شديد الأهمّية، لا بالنسبة إلينا كمنتمين إلى هذه الثقافة العربيّة الإسلاميّة، بل هو مهمّ حتى للآخرين الذين يحتكّون بنا ويرغبون في تعرّف صورة صحيحة عن المواطنة في الإسلام نصّا و تجربة وفكرا، ولكن الصعوبة التي تعتري الباحث تكمن في اختيار فرع المبحث و هنا ارتأينا الاهتمام بالشخصيات الفكرية ذات المشروع الحضاري التي اهتمت بمسألة المواطنة. وقد وجدنا في “الإسلام الآسيوي” مبحثا مغريا بإعادة القراءة، ودافعا للانفتاح على أعلام هذا الفكر ، وللتعرّف على موقفهم من مسألة “المواطنة”، باعتبارها مفهوما غربيّا خالصا، وتبيّن كيفيّة ممارسة هذا المفهوم في مجتمعات متنوّعة عرقيّا و دينيّا وثقافيّا.

وقد وقع اختيارنا على مفكّرين إثنيْن هما محضير بن محمّد، حيث سندرس مفهوم المواطنة ضمن مشروعه الفكري الموسوم بـ “الإسلام الحضاري” و أساسه موسوعة محضير بن محمّد المتكوّنة من عشرة أجزاء ، و الذي قاد دولة ماليزيا إلى تجربة حضاريّة مميزة، دعامتها الأساسيّة رؤية خاصّة للإسلام، و أمّا المفكّر الثاني فهو نور خالص مجيد، المفكّر الإندونيسي و الذي يمثّل علما من أعلام الفكر الإسلامي في إندونيسيا، و سنهتمّ برؤيته لمسألة المواطنة من خلال كتاب “الإسلام والحداثة والشخصية الإندونيسية” ، الذي تم نقله إلى العربيّة بإشراف الدكتور منصف بن عبد الجليل. وسنبني مقالتنا على ثلاثة محاور:

– المواطنة بين الإسلام و عالم ما بعد الحداثة

– المواطنة في فكر محاضير بن محمّد و نور خالص مجيد

– المواطنة في التجربتين الإندونيسية و الماليزيّة، الواقع و الآفاق.

الكلمات المفتاحية: المواطنة، الإسلام، محضير، نور خالص، الحداثة

Research title

The concept of citizenship between Mahadhir bin Muhammad and Nour Khalis Majeed

Published at 01/07/2024 Accepted at 18/06/2024

Abstract

On the topic of the International Scientific Symposium, marked “Citizenship in Contemporary Islamic Thought” The researcher is willing to contribute intellectually to a subject that we think is very important. Not as belonging to this Arab-Islamic culture, it is important even for others who rub us and want to know a true picture of citizenship in Islam in text, experience and thought. But the difficulty of the researcher lies in choosing the research branch, and here we thought of caring for intellectual figures with a civilized project that cared about citizenship. In “Asian Islam”, we found a tempting re-reading research, motivating openness to the flags of this thought, and identifying their position on the issue of “citizenship”, as a pure Western concept, and demonstrating how this concept is practised in ethnically, religiously and culturally diverse societies.

We have chosen two ethnic thinkers, Mohdeer Ben Mohamed, who will study the concept of citizenship within his intellectual project tagged with “Civilizational Islam”, based on the ten-part encyclopedia of Muhadhir bin Mohammed, which led the State of Malaysia to a distinctive cultural experience, whose basic pillar is a special vision of Islam. The second thinker is the Nour khalees Majeed, an Indonesian thinker who is a flag of Islamic thought in Indonesia. “Islam, modernity and Indonesian personality”, which was transferred to Arabic under the supervision of Dr. Moncef bin Abdul Jalil. And We will build our article on three axes:

– Citizenship between Islam and the post-modern world

– Citizenship in the thought of the lecturer Ben Mohammed and Nour Khalees Majeed

– Citizenship in Indonesian and Malaysian experiences, reality and prospects.

Key Words: Citizenship, Islam, Muhadhir, Nour Al-Khaleh, Modernity

مقدّمة

قد نذهب إلى ربط مفهوم المواطنة بالثورات الحديثة، التي شكّلت المصطلح و المفهوم وفقا للأسس التي قامت عليها فلسفة الأنوار و مبادئ حقوق الإنسان التي أعلنت عنها الثورة الفرنسية، و التي أساسها وركيزتها مفهومي العدل و المساواة، و الحقيقة أنّ الاستمرار في تبنّي هذه الرّؤية، يجعلنا ننكر المكتسبات التي حققتها التجارب الحضارية للمجتمعات القديمة، في تأسيس علاقات اجتماعية، سواء بين الأفراد ضمن المتّحد الاجتماعي الذي يجمعهم، أو بينهم و بين “الدّولة ” التي تنظّم علاقاتهم بها. وفي مقدّمة بحثنا هذا لا يمكننا أن نتجاهل التجربة الحضارية التي أنشأها العرب منذ ظهور الدين الإسلامي في مجتمع الجزيرة العربية القديم، وما رافقه من تطوّر في مكانة الإنسان فردا وجماعة، اتصالا بالنصوص المؤسسة لهذه التّجربة وهي القرآن الكريم و الأحاديث النّبويّة ثم بعد ذلك التفسيرات و القراءات الفقهية التي سعت إلى فهم النصوص الأصلية وفق الوقائع الاجتماعية و الثقافية القائمة في تلك الفترة. و عليه فإنّ قراءة مسألة المواطنة في فكر محضير بن محمّد و نور خالص مجيد، يفرض علينا بدءا أن ننظر في هذا المفهوم في النصوص المؤسسة وهنا سنقصر قراءتنا في القرآن و الأحاديث النبوية، دون أن نغفل دراسة المفهوم ضمن أطره الحديثة و المعاصرة التي شكلت صورته. ثم سننظر في رؤية المفكّريْن لهذا المفهوم ونتخم دراستنا بقراءة في مكانة المواطن في التجربتين الأندونيسية و الماليزية، اللتين نعتقد أنهما تجربتان تستحقان مزيدا من التعمّق و البحث لأنّهما تشكلان صورة ناصعة عن “الإسلام الحضاري” الذي نفتقده في مجتمعاتنا العربية. وتجدر الإشارة إلى أنّ اختيارنا دراسة هذين العَلَمَيْن، نابع من إيماننا بأنّ الانفتاح على هاتين التجربتين أي الماليزيّة والإندونيسية، على اختلافهما طبعا، يمدّنا بصورة واضحة عمّا يمكن أن يحقّقه تطبيق مبادئ الإسلام في أرض الواقع في المجتمعات التي تشهد تنوعا عرقيا وإثنيا و دينيا، من تجربة مواطنيّة محترمة، ومن قراءة صحيحة لمبادئ الدين الإسلامي. إنّنا نقدّم هذه الرؤّية مع التمسّك بالتّنسيب مبدأ من مبادئ البحث العلمي، فلا تجربة إنسانيّة متكاملة.

1 – المواطنة بين الإسلام و عالم ما بعد الحداثة

تشكّل مفهوم “المواطنة ” في العصر الحديث ضمن سياقات فكريّة و سياسيّة ارتبطت بظهور مفاهيم الدّولة و الوطن، و لا جدال في أنّ هذا المفهوم مرتبط بالفكر السياسي الحديث و المعاصر، وإنّ كنّا لا نغفل أسسه و مرجعياته التي يمكن أن تعود إلى ثقافات قديمة مثل اليونانية و الرومانية وحتى القرطاجيّة التي أعطت للإنسانية أرقى دستور حقّق مفهوم المساواة و العدالة بحسب ما ورد في كتاب السياسة لأرسطو. نحن لا ننكر تلك الجذو التاريخيّة لمفهوم المواطنة و لكن لا يسعنا التوسع فيها، لذا رأينا أن نوجز الحديث في هذا المبحث، بتحديد ثلاثة مفاهيم رئيسية حدّدها أرسطو في كتاب السياسة، وترتبط أساسا بمفهوم المواطنة وهي الدولة و الدستور و الدّيمقراطيّة، وعلى هذه الأسس يفاضل أرسطو بين الدّول التي استطاعت أن تحقّق درجات أرقى للمواطن من متطلبات العدالة و المساواة ويرى أن قرطاج كانت أرقى تلك التجارب إذ يقول “كان لقرطاجنّة أيضا فيما يظهر دستور حسن، أوفى من دستور الدّول الأخرى، في كثير من النّقط. وهو من بعض وجوه النّظر مشابه لدستور لقدمونيا. تلك الحكومات الثّلاث لكريت (Crète) وإسبرطة (Sparte) وقرطاجنّة(Carthage) بينها مناسبات كبرى وهي أرقى بكثير من جميع الحكومات المعروفة. القرطاجنّيون على الخصوص لهم أنظمة فاضلة، والذي يثبت حكمة دستورهم، هو أنّه على رغم ما خوّلت الأمّة من نصيب في الحكم، لم يُرَ البتّة في قرطاجنّة تغيّر في الحكم ولم يكن بها لا ثورة ولا طاغية. وذلك شيء حقيق بلفت النّظر.”[1]

إنّ المواطنة من هذا المنطلق، ترتبط ارتباطا وثيقا بالفكر السياسي القائم و بالنظام السياسي الذي يدير شؤون الناس، بمعنى أنّ الدّولة القائمة – لا المتخيّلة- هي التي تحدّد مستويات المواطنة الممارسة اعتمادا على ثنائية الحقوق و الواجبات الموكولة إلى الأفراد أو عليهم، وبناء على القوانين التي اجترحها المجتمع لتنظيم العلاقات بين أفراده. و تأسيسا على ما تقدّم فإنّ مفهوم المواطنة لا يكتمل إلاّ ضمن شروط سياسيّة هي وجود دولة و دستور و نظام ديمقراطي يحقق العدالة بين مواطنيه، وهذه شروط لا ترتبط بحضارتنا الحديثة أو المعاصرة أو الراهنة بل هي شروط أقرتها الدول القديمة ، يقول أرسطو ” الدّولة كما يفهمها أفلاطون، هي إذن جماعة من أناس متساوين أحرار، يجعلون شركة بينهم، عملهم وفطنتهم، وينمّون جميعا البذور الإلهيّة التي تنطوي عليها نفس الإنسان، يرتبطون بأواصر الأخوّة ويطيعون -لبقاء النّظام في المدينة- الحكّام المستنيرين أولي الرّعاية والحزم.”[2]

إنّ هذه الشروط المتقدّمة، لا تختلف عمّا أتى به الدين الإسلامي، من مبادئ و تشريعات تحقّق مفهوم “المواطنة” في جوهرها و إن كانت التشريعات لا تستعمل المصطلح الذي قلنا إنّه مرتبط بسياقات ثقافية وسياسية غربية لاحقة، فالمتدّبر في النص القرآني و الأحاديث النّبوية الشريفة سيجد قرائن كثيرة دالّة على مفهوم المواطنة صورته الشاملة و في أبعاده الكونيّة، ذلك أنّ القرآن تحدّث عن الإنسان و لم يميّز بين هذا و ذاك على أساس اللون أو العرق أو الانتماء الجغرافي و هي محدّدات قامت عليها تجارب سياسية وحتى دينية سابقة. ولنا أن نؤكّد أن ما يعرف اليوم في عالم ما بعد الحداثة أو عالم العولمة بالمفاهيم الكونية و الإنسان الكوني إنّما هي محدّدات نجد جذورها في الدين الإسلامي، أ وَ ليست حريّة المعتقد والعدالة والمساواة و الإخاء وغيرها من المفاهيم و المصطلحات، ثابتة و راسخة في النصّوص الإسلامية المقدّسة؟ إنّ المواطنة الحقيقيّة / الفعليّة في النصوص الإسلامية تقوم على أقانيم ثلاثة وهي المساواة والعدل والحرّية. ففي باب المساوة خاطب الله “النّاس” وهو المصطلح الشمولي الموجّهة إلى الإنسانيّة عامّة دون أي تمييز، في قوله تعالى” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ” [3] . و في هذا الخطاب تأسيس لمفهوم المساواة بين الجنسين وبين الأعراق، فلا فضل لهذا على ذاك، وليست مبادئ الفكر السياسي المعاصر بخارجة عن هذه التصورات و إن كانت لم تبلغها لا من حيث التنظير و لا من حيث التجسيد الفعلي عندما تحوّلت تلك الأفكار الوضعية/ البشرية و الإيديولوجيات إلى أنظمة سياسية حاكمة تشرع القوانين فلا تبلغ المساواة الفعلية حتى في أرقى الأنظمة الديمقراطية. و تأكيدا للخطاب القرآني، نجد توجيها نبويا يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلّم ” يا أيُّها الناسُ إنَّ ربَّكمْ واحِدٌ ألا لا فضلَ لِعربِيٍّ على أعجَمِيٍّ ولا لِعجَمِيٍّ على عربيٍّ ولا لأبيض على أسْودَ ولا لأسودَ على أبيض إلَّا بالتَّقوَى إنَّ أكرَمكمْ عند اللهِ أتْقاكُمْ” .[4] إنّ المساواة دعامة أساسيّة في النصوص المقدّسة، ولا تكتمل المواطنة دون مبدأ المساواة، ولكن ليست المساواة الوهمية أو المزيّفة التي تخفي وراءها واقعا مواطنيّا جحيميّا.

أما الدّعامة الثانية التي تحقّق في نظرنا مفهوم المواطنة في الإسلام فهي مبدأ العدل، (الذي هو من أسماء الله الحسنى)، ذلك أنّ مفهوم المواطنة في الفكر الغربي الحديث و المعاصر، يرنو إلى تحقيق العدالة الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافيّة، ولكنّ هذا المطلب أي العدل هو ركن أساسي في النص القرآني إذ يقول الله تعالى ” إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ”[5] ، ونجد في موضع آخر آية تحث على العدل بين الناس ” إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا”[6]. ولسنا هي في موضع تعداد البراهين و الأدلّة على أنّ الإسلام هو دين العدل و المساواة كما بيّنا، وهما شرطان من شروط المواطنة الكاملة، ولكنّنا نشير إلى دعامة أخرى نعتقد أنّها مهمّة في تشكيل مفهوم المواطنة وهي مبدأ الحرّية، إذ نجد في القرآن الكريم ” لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيّ” [7] ، ولنا في النص المقدّس دليل آخر على ثبوتية مفهوم الحرّية الشخصية في القرآن الكريم وهي ديدن الأفكار السياسية الحديثة، حيث يقول تعالى ” ولو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين”[8].

إنّ هذه الشروط أو الدعائم، تعتبر في الأفكار السياسية و الحديثة أسس المواطنة الحديثة، وهي كما رأينا ليست غائبة عن النصوص المؤسسة للتجربة الحضارية الإسلامية. ذلك أن العقد الاجتماعي الذي تشكّل في دستور المدينة وفي تجربة الإسلام المبكّر لم يكتف بتحديد نموذج “مجتمعي” جديد ومغاير لما ألفه العرب قبل ذلك، بل إنّه أسس لحقوق الفرد ضمن إطار الجماعة، بمعنى، أني ذلك العقد الاجتماعي/ الديني، مأسسة حقوق الفرد ضمن أطر الجماعة و ضبط خصائص العلاقات داخل الإطار الحضاري للدولة الإسلامية التي كانت بصدد التشكّل. ونعتقد أنّ التركيز على هذه النقطة هو من الأهميّة بما يعيد قراءة التاريخ ضمن السياقات القائمة في تلك التجربة الإنسانية و الثقافية المجدّدة للعلاقات الاجتماعيّة في “وطن” الجزيرة العربية، حتى تمدّد ذلك الوطن نحو مشارق الأرض و مغاربها. و إن كانت بعض القراءات تذهب إلى أنّ الفرد / المواطن في التجربة الإسلامية المبكّرة لم تكن له الأهميّة مقارنة بحقوق الجماعة مثل رأي علي الصالح مولى “إنّ الفرد على الرغم من وجود بعض الحوافز النصّية التي تنتصر له وعلى الرغم من بروز سياق تأويلي لمصلحته يدور على المسؤولية و الكسب و الفعل ، كما عند المعتزلة مثلا، لم يكن متاحا له موضوعيا أن يكون مركزا تبنى داخله و لفائدته أنظمة القيم التوجيهية”[9] ، فعلينا أن نقول أيضا إنّ الفرد/ المواطن في الدّساتير الحديثة و في الفكر السّياسي المعاصر، و إن يقع تضخيم صورته في النّصوص و النّظريات، إلاّ أنّه في الواقع لا يكتسب قيمة أكثر من تلك التي يكتسبها المجتمع الذي ينتمي إليه، بل إنّ الفرد/ المواطن، تمحق حقوقه أمام حقوق الوطن عليه. ولذا فإنّ علينا الانتباه من صورة المواطن “الحديثة” لأنّها لا تتمايز عن صور الانتماء القديمة للفرد إلاّ بمقدار المتغيّرات التي تشهدها المجتمعات في شتّى المجالات. و حتّى نوجز القول في هذا الموضع فإنّ مفهوم المواطنة قديما أو حديثا إنّما يتحدّد على أسس العلاقة مع الدّولة القائمة، ومهما تعدّدت النظريات و المرجعيات الفكريّة، فلا مكانة للمواطنة خارج إطار العلاقة مع الدّولة، يقول عماد فوزي الشعيبي تطرح ثنائية” الدولة – المواطنة” إشكاليّة فلسفية محدثة، فالمواطنة لا تتبلور إلاّ بالعلاقة مع الدّولة”[10].و إن كانت هذه النّظريات تعيدنا إلى الأسس و الثوابت التي انبنى عليها مفهوم المواطنة، فعلينا أن نتساءل عن حظّ هذا المفهوم من التطبيق في واقع الدول التي تشكّلت عقب نهاية الحرب العالمية الثّانية أي تلك الدّول التي استقلّت في النصف الثاني من القرن العشرين، ومنها طبعا الدّول العربية و الإسلامية التي تحرّرت من نير الاستعمار؟ إن الإجابة يلخصّها عماد فوزي الشعيبي في ما يلي ” يمكن تحديد المعضلة في عالمنا العربي بأنّ علينا أن نصنع الدولة الحديثة التي عيّنت المواطنة على أساس الحداثة ، فيمتا عصر ما بعد الحداثة يفرض نفسه بالعولمة و الميوعة المواطنيّة و بالعدميّة المواطنيّة ، بمعنى أنّ التّحاقب التّاريخاني يفرض على العرب مسؤوليّة مركّبة في أن يعيّنوا هويّتين لمواطنيّته معا في وقت كانت التجربة العربيّة عاجزة في مرحلة الحداثة عاجزة عن إنتاج أكثر من هجين الدّولة و الرّعيّة”[11]. و الحال هذه هل علينا أن نتساءل عن جوهر مقالتنا و نقرأ مفهوم المواطنة في منطقة جغرافية بعدية عنّا ولكنّها تبني أسس ثقافتها على ذات مرجيّعتنا الثّقافيّة و الدّينية؟ إننا نسعى في هذا المبحث الثاني لتشكيل صورة نظريّة وواقعيّة ” لمفهوم المواطنة في البيئة الإسلامية الآسيوية، من خلال علَميْن نعتقد أنّهما يمثّلان مرجعيّتين مهمّتين في الفكر الإسلامي المعاصر، وهما محضير بن محمّد و نور خالص مجيد.

2 – المواطنة في فكر محاضير بن محمّد و نور خالص مجيد

وجب علينا في بداية هذا المبحث أن نشير إلى جملة من المحدّدات التي تحكم استقراءنا لمفهوم المواطنة، في فكر إسلامي لا يعتقد في المواطنة بل في الأمّة، و لا يخاطب “مواطنا ” محدّدا بقيود جغرافيّة أو عرقيّة أو لونيّة بل يخاطب “الإنسان” في مفهومه الأشمل، وعليه فإنّنا لا نجد عند نور خالص ماجد على سبيل المثال استعمالا لمصطلح “المواطنة” رغم حديثه عن كلّ المحدّدات التي تشكل مفهوم المواطنة في المجتمع الإندونيسي، فهو إما يستعمل مصطلح “الفرد” أو الإنسان” أو “الأمّة” ، وهذا يمكن فهمه ضمن إطار المرجعية الفكريّة و الديّنية التي ينتمي إليها، وهي الثقافة الإسلاميّة. كما أنّ محضير بن محمّد يميل إلى استعمال مصطلح الإنسان أكثر من ميله إلى استعمال مصطلح” المواطنة” في مفهومه الغربي، ولكنّ الرّجلين يشيران إلى كلّ العناصر التي تشكل مفهوم المواطنة سواء في صورته الحداثية أو في صورته المعولمة، أي في عالم ما بعد الحداثة، مع يقيننا أنهما ينطلقان من رؤية إسلامية هي بالتأكيد أشمل و أعمق من الرّؤية الغربيّة التي شكّلت مفهوم المواطنة. و إذا عدنا إلى تعريف بسيط للمواطنة كونها” هي الرابطة الاجتماعية و القانونيّة بين الأفراد و مجتمعهم السياسي الديمقراطي وهي المؤسسة الرئيسية التي تربط الأفراد ذوي الحقوق بمؤسسات الحماية للدولة. وعليه فهي عنصر رئيسي للدّيمقراطية ومن ثمّة فهي تستلزم واجبات ومسؤولية مهمة تصبح الديمقراطية عاجزة دونها.”[12] و إذا كان من شروط المواطنة أن “يكون الفرد عضوا في مجموعة وبذلك يكون مؤهلا للمنافع و الحقوق التي تمنحها عضوية المجموعة (الحقوق السياسية الاجتماعية الاقتصادية ..)” [13]، فإنّه يمكننا القول وبكلّ اطمئنان إنّ محضير بن محمّد و نور خالص يشكّلان مفهوما للمواطنة في إندونيسيا و ماليزيا انطلاقا من رؤيتهما لمجتمعيهما الإسلاميين، ولكنّ بنظرة معاصرة تأخذ بكل الشروط التي تحدثنا عنها في ما سبق. و اختيارنا للشخصيتين لم يكن من فراغ بل رغبنا في رصد موقف المفكّر المنخرط في العمل السياسي الوطني و هو نور خالص ماجد، وموقف السياسي الذي تحمّل أعباء الحكم في مجتمع متعدد الأعراق و الديانا و طبق مبادئ الدين الإسلامي وهو محضير بن محمّد و دوّن آلاف الورقات انطلاقا من خبرته الفكرية و السياسية.

و اعتقادنا أنّ المواطنة من منظورهما لا تكتفي بأن يكون الفرد مواطنا أو عنصرا في مجتمع إسلامي، بل كيف تكون إنسانا كما صوّرك القرآن وكما تحددت صورتك في النصوص الدينية الإسلامية. وهنا لا نجانب الصّواب إن عدنا للتأكيد على أنّ صورة “المواطن العالمي” كما أراد نظام العولمة ترسيخها، هي أضمر وأقل بكثير من صورة “الإنسان العالمي” كما تشكّلت في الدين الإسلامي، وكما سنرى فكر الرّجلين. فمحضير بن محمّد على سبيل المثال يصف نفسه أحيانا بأنه مسلم ويرى نفسه في موقع آخر مواطنا كونيا عليه أن يلتزم بالقيم الكونية، إذ يقول “بصفتي مواطنا كونيا لا بد أن تقوم بلدي فيصنع مجتمع عالمي يقوم على المساواة و الاحترام المتبادل و العدل”[14]. و في مواطن أخرى يحدد انتماءه الوطني و حتى الإقليمي ” أنا كشرق آسيوي ملتزم ببناء الجماعة الشرق اسيوية التي نقيم فيها سلامنا المشترك ونبني رفاهيتنا المشتركة بطريقة تعاونية جماعة شرق اسيوية فيها عمالقة منطقتنا الصين و اليابان واندونيسيا ، ونعيش جميعا في وئام في مجتمع من الاحترام المتبادل و المنفعة المتبادلة يقوم على المساواة.” [15] بل إنّه يدعو “مواطنيه” من الشباب إلى ان يكونوا مواطنين عالميين ” يجب أن يفكر شباب القرن الحادي والعشرين في انفسهم بوصفهم مواطنين حقيقيين في العالم و يجب أن ينسوا اللون و الجنس و أفكار التفوق والنقص ويفكروا في المساواة ليس بمفهوم الثروة المادية فقط بل بمعنى الاحترام المتبادل و المراعاة المتبادلة.” [16] أمّا نور خالص ماجد فإنّ انتماءه إلى الأمّة ( الشعب الإندونيسي) ، لا يجعله ينظر من منظور ضيّق لمفهوم المواطنة، فهو يبني رؤيته انطلاقا من الرؤية الإسلامية الشاملة التي تتحدث عن “الإنسان” وليس عن مواطن مقيّد بحدود جغرافية او سياسية أو محددات أخرى ثقافية و دينية إذ يقول ” و بعبارة أخرى جلب الإسلام فهما شاملا للإنسانية بسيادته التوحيدية”[17].

وقبل أن ندرس موقف الرجلين من مفهوم المواطنة، علينا أن ننبّه إلى أنّهما لا يستعملان هذا المصطلح و إنّما يشيران وبعمق إلى كلّ ما حدده الفكر السياسي المعاصر من شروط المواطنة في الأنظمة الديمقراطية، فلئن كانت الحداثة السياسية تتحدث عن ثلاث محدّدات للمواطنة وهي العدالة و المساواة و الحرّية، فإنّ الإسلام قد سبق ذلك بحقب زمانية كبيرة، ووضع هذه المحدّدات ضمن نصوصه المؤسسة، وضمن تجاربه التاريخيّة التي انطلقت منذ دستور المدينة الذي يعتبر ثورة وعملية تحديث اجتماعي و سياسي لم يسبق لمجتمع الجزيرة العربيّة أن عاش مثلها. يقول نور خالص ماجد” لم يعد من الممكن التشكيك في أّن المجتمع العربي قد حقق قفزة إلى الامام في التطور الاجتماعي و القدرة السياسية في ظل النبي محمد ن النتيجة كانت شيئا عصريا جدا في زمانه ومكانه والنتيجة هي ولادة عصر حديث للغاية إنه حديث من حيث المستويات العالية من المشاركة و التناغم المتوقع من الناس العاديين كأفراد في المجتمع .”[18]

و تأسيسا على ما سبق، سنركّز ضمن قراءتنا لفكر الرّجلين على هذه المحدّدات الثلاثة وهي العدالة والمساواة و الحرّية .

أ – العدالة أساس المواطنة

إذا كان مفهوم المواطنة في الفكر السياسي الحديث يرتبط ارتباطا لا جدال فيه بمبدأ العدالة ضمن النسق الاجتماعي أو الثقافي او النسق الإنساني العام الذي ينتمي إليه الفرد، فإنّه عند محضير و نور، أمر أساسي، ونجد الكثير من القرائن و الأدلة في ما كتباه تدعم هذا الرأي، فالعدالة من وجهة نظر نور خالص ماجد هي أمر إلاهي و هي فعل يراد به التقرّب إلى الله” إذا يأمرنا الله جميعا بالقيام بالأعمال الجيدة و الخيرة وذلك للتأكيد على أن تحقيق العدالة هو فعل يساعد على التقرب من الله”[19]. و العدالة عند محضير بن محمّد هي من القواعد الإسلامية التي تنص عليها الشريعة الإسلامية ، و عندما نتحدّث عن عدالة فإنها ترتبط دون شكّ بالعلاقات الاجتماعية بين الأفراد سواء كانوا “مواطنين” أو قادة، إذ يقول ” الاسلام يتطلب العدل ليس فقط من القادة وإنما أيضا من المجتمع ، علما أنّ جميع صور الفساد مثل السعي لتحقيق المنافع الشخصية أو الحصول على مقابل نظير خدمات سابقة تتعارض تعارضا تامّا مع قواعد العدالة الاسلامية”[20]. و العدالة من هذا المنظور ليست فقط واجبا دينيا ، يؤسس لمجتمع متوازن، بل هي عنوان “تحضّر” إنساني ” ، فإذا كان بن محمّد يعتقد أن القوانين التي ابتدعتها الحداثة السياسية تظلّ قاصرة عن تحقيق العدالة بين كل المواطنين ” في وقتنا الراهن تمخضت الأفكار الليبرالية عما هو صواب و ما ه خطأ وما هو عادل وما هو غير ذلك ، عن تحقيق العدالة لبعض الفئات إلا أنه قد نتج عنها ايضا ظلم وانتهاك لحقوق فئات أخرى و تأسيسا على ذلك فغننا نجد في بعض الديمقراطيات الليبرالية أن حقوق الأغلبية يتم تجاهلها و التنكر لها في سبيل حماية حقوق الأقلية و دعها، بل حقوق أفراد بعينهم في بعض الأحيان.” [21]، فإنّ نور خالص ماجدّ يعتقد “أن الإنسانية المتحضرّة موجودة فقط في العدالة وأن الانسانية العادلة هي وحدها القادرة على دعم الحضارة” [22]. بل إنه لا تقدّم و لا تنمية دون شرط العدالة ” إذن مع العدالة يمكن تحقيق حضارة متينة و ذلك لأن العدالة هي اساس اخلاقي قوي للتنمية البشرية على مر التاريخ. و على العكس من ذلك فإن غياب العدالة سيكون بمثابة التهديد المباشر لبقاء الأمة و المجتمع.”[23] ممّا تقدّم نرى أنّ المفكّريْن يلتقيان في ضرورة تطبيق العدالة لأنها ضرورة دينية ( من قواعد الإسلام) وهي ضرورة اجتماعية ، لا يتحقق الاستقرار دونها، وهي كذلك مبدأ إنساني و عنوان تحضّر و تقدّم للمجتمع. و العدالة هي الاساس الأول الذي يجب أن تبنى عليه العلاقات بين الأفراد / المواطنين داخل هذا الفضاء الإنساني الرحب. ولكن محضير و نور، يشددان على أهمّية تطبيق مبدأ العدالة في المجتمعين الماليزي و الإندونيسي. و يعتقد نور خالص ماجد أنّه ” حول العدالة الاجتماعية لجميع الناس، نحن نعلم جميعا أهمية هذه المثل العليا في بلدنا. إنها مصدر حقيقي لوجهتنا في هذه الجمهورية المستقلة.” [24] ، مضيفا ” إذن الشعب الاندونيسي يجب أن يتبع اسلوبا معينا في الحياة اساسه التضامن الاجتماعي الذي يؤدي الى العدالة الاجتماعية الموجودة في بعض الدول بهذه الطريقة.”[25]

و لا يبدو محضير بعيدا عن هذا الرأي في ما يتعلق بالمجتمع الماليزي فـ ” المسلمون الماليزيون قادرون على حكم ماليزيا بالتعاون مع غير المسلمين مع تحقيق النزاهة و العدالة لكل الأفراد بغض النظر عن العرق أو الدين.”[26] ، وهو يعتقد أنّ” هناك قوانين رديئة لا تكفل العدالة مثل تلك التي كانت تجير الاسترقاق و تسمح معاملة الرقيق معاملة قاسية . هذه القوانين سيئة السمعة تم إلغاء مفعولها مع تطور المجتمعات البشرية وحلت محلها قوانين أكثر عدلا و إنصافا”[27]

إنّ المواطنة في فكر محضير بن محمد و نور خالص ماجد، ترتبط بمفهوم العدالة، ذلك أنّ المجتمع المتحضّر القائم على مواطنة حقيقية، يجب أن تسوده العدالة بين أفراده و جماعاته سواء كانوا أقليات أو أغلبية. ولكن العدالة تتكامل مع شرط آخر هو المساواة.

ب – المواطنة و المساواة

ترتبط فكرة العدالة بفكرة المساواة، وهكذا تتأسس فكرة المواطنة لدى محضير بن محمد و هور خالص ماجد على هاتين الركيزتين، لذلك نجدهما يشدّدان على مفهوم المساواة، اعتبارا لكونه أحد شروط المواطنة الحقيقية. ويسعى كلّ منهما إلى التذكير بأن المساواة هي من أسس الدّين الإسلامي و تعاليمه التي أمر الله بها فصارت واجبة على أتباع الأمّة من المؤمنين، يقول نور خالص ماجد” يعلّم الاسلام الناس المساواة بين البشرية إذ لا يوجد هناك ما يبرر التفوّق”[28] . و المساواة ليست فقط أساسا إسلاميا بل هي حاجة اجتماعيّة تضمن مشاركة الجميع ” إنّ العامل الأكثر جوهرية و تحريكا للأخلاق الاجتماعية الذي يدعو إليه الإسلام هو المساواة بين جميع أفراد العقيدة الواحدة بغض النظر عن لون البشرة والعرق والوضع الاجتماعي أو الاقتصادي و لهم الحقوق نفسها في المشاركة في المجتمع.” [29] و المساواة هي أيضا شرط ليكون الفرد/ المواطن عضوا فاعلا في المجتمع. فلم يشدّد الإسلام على مبدأ المساواة بين النّاس إلاّ ليكون الجميع سواسية أمام القانون، ولكي تتاح لهم فرصة أن يكونوا أعضاء متساوي الحقوق و الواجبات” البعد الاسلامي الذي يجب التشديد عليه دائما هو العضوية في المجتمع. مجتمع تعتبر فيه سيادة القانون أمرا مهما و بارزا.”[30] وعندما نشرّع لمبدأ المساواة، فإنّ ذلك تشريع لعلاقات اجتماعية تقوم على الاحترام بين أفراد / مواطنين في المجتمع الواحد، وعلى قبول التعدد و الاختلاف، وليست الديمقراطية إلاّ نظاما سياسيا يسعى لتحقيق هذه المقاصد السامية” يعدّ تحقيق المساواة بين الأعباء و الفرص في جميع المجالات على الأفراد و مجموعات أعضاء الأمة أحد المظاهر الملموسة لفكرة العدالة الاجتماعية بحيث يمكن الإشارة إليها باعتبارها إحدى المظاهر المباشرة التي نطمح إلى تحقيقها في دولة.”[31] و يضيف في موطن آخر ” نجد إقرارا صادقا بان فطرة البشر في تعددهم و تنوعهم و بعبارة أخرى فإن النظرة العادلة للإنسانية تولّد الاستقرار لمبدأ التعددية الاجتماعية و التقدير المتبادل في العلاقات الشخصية بين مكونات افراد المجتمع الذي تكون فيه الوحدة مستحيلة بدون هذا التفاهم المتبادل و الوحدة التي ستحقق التقدم.” [32]

إنّ العدالة أو المساوة، شرطان عمليّان لا شعاريْن يقع رفعهما دون تطبيقهما، لأنّ المواطنة الفعلية تترجم في تلك العلاقات المباشرة بين الأفراد في المجتمع الواحد، أي في الممارسة اليومية وليس في القوانين أو الدساتير ” أمّا ممارسة هذه القيم فتتم مباشرة بين الأفراد في العلاقات اليومية أو بشكل غير مباشر من خلال الآليات المؤسسية التي يتم تحديدها من قبل المجموعة.” [33] إنّ المساواة بما هي شرط أساسي لمواطنة فاعلة في المجتمع، ليست إلاّ جسرا للارتقاء بالسلوك و التفكير و العلاقات إلى مراتب عليا تقارب المقدّس ، أ و ليست الديمقراطية في المجتمعات المتقدّمة هي من المقدّسات السياسية التي لا يرضون العيش دون مرتبتها؟ هكذا يرى نور خالص المساواة جسرا للعضوية و للمشاركة عبر آلية “الشورى” لبلوغ مرتبة الإنسان الكامل و الحياة الممتازة” إن المشاورة أو المشورة ليست مجرد تعبير عن الانسانية لأنها تستند إلى موقف يدعو تقدير وقبول الأشخاص من بني البشر فقط، بل هي أيضا تعبير عن الألوهية أو التقوى لأن الألوهية هي أساس التواضع.”[34] إنّ تحقيق هذه الغاية وهي الارتقاء بمنزلة الإنسان و ترفّعه عن صغائر الدنيا و أطماعها، لا تؤثّر على البنية الاجتماعية الضيّقة فقط، بل إنها تؤثر على الأفراد اينما كانوا خاصة في هذا العالم المعولم. فالعدالة و المساواة تؤسسان لإنسان كوني، وليست الرسالة الإسلاميّة إلاّ خطابا يحقق هذا المقصد كما ذكرنا في ما تقدّم، يقول نور خالص ماجد” الإنسان الحرّ القادر على الشعور بكينونته مع المجتمعات الأخرى في نفس الوقت هو شخص متحرّر من الأوثان أو العقائد أو التحيزات أو الأفكار المسبقة. إنّه شخص متسامح و بداخله شعور عميق يشجعه على تحقيق العدالة والمساواة، فهو مدرك لنفسه إنسانا فرديا و كونيا في آن واحد.”[35]

لا يختلف مفهوم المساواة عند نور خالص ماجد، عمّا يوجزه محضير بن محمّد في مجمل كتاباته، فمحضير يعتقد أنّ العدالة و المساواة هي ارتقاء بكينونة الإنسان و تحقيق لإنسانيته المطلقة ” ومع ذلك أتمنى ألا تتغير القيم الإنسانية و إن تغيرت فلتتغير حيث يظل البشر أكثر آدميين و أكثر إنسانية وتسود قيم الرحمة و المساواة و تقدير مشاعر الآخرين و الشفقة و الحنو على الغير و التمسك بالعدالة.” [36] وهكذا فلا يمكن فصل المساواة عن العدالة و لافكّ الارتباط بينهما، ليس فقط في الحقوق السياسيّة و في الفرص و الأعباء اي تلك المساواة القانونية اليت قد لا تجد حظّا لتطبيقها، بل إن محضير يؤكّد على ممارسة المساواة في خلق الثروة وفي توزيعها ” منذ العام 1970 كانت ماليزيا تعيد بناء اقتصادها بنشاط حتى تعطي كل مجتمع نصيبا عادلا من الثروة و تم وضع السياسة الاقتصادية الجديدة منذ عام 1970واتبعت سياسة التنمية القومية في عام 1990 وكانت الغرض هو تعزيز توازن الحالة الاقتصادية الجيدة لكل المجتمعات المختلفة.”[37]

إنّ المواطنة لدى محضير بن محمّد و نور خالص ماجد، لا يكتمل مفهومها إلاّ بتنصيصهما على مبدأي الحرّية التّامة و المشاركة الفاعلة في بناء المجتمع و تحقيق نهضته، ومن هذا المنطلق تتكامل أركان مفهوم المواطنة في صورته الحديثة و المعاصرة مع المبادئ الإسلامية التي شرّعها القرآن و السنة. فالإنسان في الدين الإسلامي هو فرد حرّ في معتقده و في آرائه، وهو أيضا فرد لا تكتمل مواطنته ( انتماؤه للأمّة) إلاّ بمدى عضويته في تلك الأمّة أي بمدى مشاركته و فاعليته في تحقيق متطلبات التقدّم و النهوض.

ت – الحرّية و المشاركة

يبدو مفهوم الحرّية متأصلا لدى ابن محمّد ونور، فكلاهما يشير إلى أنّه أمر ثابت في الشريعة الإسلامية التي كفلت حرية المعتقد، يقول نور خالص ماجد” إن مبدأ الحرية الدينية هو من المبادئ الأساسية للغاية و يشمل النظام الاجتماعي و السياسي و الانساني . في القرآن هناك تأكيد على أن الإنسان قادر على تحديد هذه الحرية.” [38] و إذا كانت الحرّية هي مبدأ أساسي في الإسلام، فإنّ على المسلم و كل أفراد الأمة أن يقدّروا هذه النّعمة حقّ قدرها، لأنّها خلّصتهم من بنى اجتماعية “جاهليّة” كانت تسحق الفرد و تبني المجتمع على تراتبيات المال و النفوذ و السلطة و القوّة، ولذلك انقسمت المجتمعات القديمة إلى طبقتين رئيسيتين طبقة الأسياد الأحرار و طبقة العبيد المعذّبين في الأرض. و لكنّ الإسلام قيّد هاته الحرّيات حتى لا تتحوّل إلى أدوات استعباد جديدة أو تبني هرمية جديدة تغير من معنى الحرّية الحقيقية كما أرادها الإسلام . يقول نور ” لقد أنعم الله على الإنسان بالحرية ، لكنه لا يستطيع في المقابل التحكّم بالكامل في طريقة حياته الخاصة.”[39] إنّ ضوابط حرّية الفرد في المجتمع الإسلامي تتأسس على فهم حقيقي لكيفية تسير هذا الكون، فإذا كان الله هو الخالق لبني البشر و هو الأقوى من الجميع فليس هناك من مبرّر لعقلية التفّوق ( الجنسي أو العرقي أو الديني ..)، فجميع الناس أحرار متساوون، ولو مارسوا هذه المبادئ في علاقاتهم اليومية، لما كانت هناك حروب و وصراعات مدمّرة، ولما كانت عقلية الغطرسة و التفوق قد سيطرت على العقليات و الأذهان . يقول نور ” لقد ظهر مفهوم التحرر من خلال وجود اقتناع بأن الله متفوق على الإنسان ، لذلك فإنّ كلّ البشر مخلوقات حرّة و تتجسد هذه الحرية بقوتها الابداعية الخاصة. فتكون مسؤولة عن تنفيذ مهمة الخلافة.”[40] إنّ الحرّية ثابتة في قراءة نور خالص ماجد ومحضير بن محمّد الذي يعتبر أنّ النظام الديمقراطي على علاّته هو الذي يمثل أفضل الأنظمة السياسية التي تكفل العدل و المساواة و الحرّية ، وهو النظام الأكثر تمدينا لحياة الناس بفضل ما يحتويه هذا النظام من فرص مساواة و تحرر ” يبدو واضحا لي أنّ الدّيمقراطية مع كل أخطائها ، إلا أنّها أكثر الأنظمة عدلا و إنتاجية و تمدينا حتى الآن من أيّ نظام آخر ابتكرته الإنسانية لحكم الإنسان على الأقل على مستوى المجتمعات و الأمم.” [41]

إن ترسيخ قيم التحرر، لا يكون إلاّ بضمان مشاركة الأفراد في بناء مجتمعاتهم دون النظر إلى الفروقات التي تكون بينهم. وإذا بلغ المجتمع مستوى من العدالة و المساواة و التشاركيّة فإنه بالضرورة سيكون مجتمعا حرّا ينشر الحرية في العالم و يناهض القيم السلبية المتمثلة في الاستعباد و الاحتقار و الاستعمار و غيرها من الصفات التي طبعت العلاقات الدولية في القرون و العقود الماضية. إنّ المجتمع المتماسك هو المجتمع الذي يضمن مساواة في المشاركة لكل أفراده بغض النظر عن تنوعهم، وهو المجتمع الذي يجب أن يرمي وراءه تلك “الأحكام التاريخية” التي صيغت في الفترة الإسلامية الأولى لضرورات تاريخية كما يقول فهمي هويدي ” ثمّة إجماع عام لدى التيار الإسلامي يقبل المواطنة ، ويتجاوز الخطاب السياسي المتكئ على الماضي، حيث بدأت بوادر التبني الصريح للمواطنة الكاملة لغير المسلمين مع كتابات البعض التي تدعوا إلى التسامي فوق التصنيفات و الطبقات القديمة التي يشير إليها مصطلح الذمّة و قبول غير المسلمين كمواطنين لهم جميع الحقوق.” [42] إنّ هذا الرأي نجده عند محضير بن محمّد الذي يقول ” لابدّ من أن يقدّم الأفراد بقدر حجم إسهامهم ومضمون شخصياتهم بدلا من مفاهيم شكل عيونهم و لون بشرتهم واتساع حافظة نقودهم أو الحرارة التي في أيديهم.”[43] ويثبت نور خالص ماجد هذه المرجعية الفكرية الإسلامية الجديدة، في قوله ” يمكن أن تكون الحياة السياسية للأمة العلمانية* دون التأثير على المعتقدات الفردية أو الدينية و الولاء لمؤسسات دينية معينة.” [44] و يردف هذا الرأي بآخر مشددا على أنّ المشاركة الشاملة لا بد أن تكون قائمة على التعدد و التنوّع ” يجب أن يكون للمجتمعات الدينية و الحياة الفردية للأشخاص المتدينين علاقة عضوية مع المجتمع ككل من حيث الفكر و الاخلاق و المشاعر ، وهذا يعني ان التنوع يجب ان يكون متصلا بالحياة الواقعية .[45]

هناك رابط واضح إذن بين العدالة و المساواة و الحريّة و المشاركة في الفكر الإسلامي المعاصر، وبين مفهوم المواطنة كما تشكل في الدّولة المعاصرة و في مرجعيات الفكر السياسي الحديث. فالمسلمون اليوم يعيشون مع غيرهم في دول تقوم على دساتير و قوانين في أغلبها وضعية و إن كان بعضها مستمد من الفقه الإسلامي، ولكنّ التجربة التاريخية المعاصرة في الملكيات أو الجمهوريات، تمارس “مفهوم المواطنة” بمنطق الدولة العصرية لا استنادا إلى الإرث التاريخي الذي يحدد الولاءات و الانتماءات على أساس ديني أو مذهبي أو عرقي. وهذا في حدّ ذاته يعدّ تطوّرا مهمّا خاصّة في الدول الإسلامية التي اختارت أن يكون النظام الديمقراطي هو نهج حكمها. وربما كانت ماليزيا و إندونيسيا هي من بين الدول المسلمة القليلة التي استطاعت أن ترتقي فوق التقسيمات الاجتماعية، و أن توحّد المجتمع توحيدا سمح باستثمار كافة الطاقات وهو ما أدّى إلى تفعيل “مواطنة ” حقيقة استفاد منها الجميع. فليست النهضة الاقتصادية أو المنوال التنموي الذي وقع تطبيقه في البلدين الإسلاميين وليد صدفة بل هو نتيجة طبيعية لوعي سياسي ولنظرة عميقة للإسلام و جوهره.

3 – المواطنة في التجربتين الإندونيسية و الماليزيّة، الواقع و الآفاق.

يمكننا التأكيد على أنّ إندونيسيا حسمت أمرها بممارسة مواطنية تقترب كثيرا من تلك التي تمارس في الدول العلمانية، وهذا الخيار السياسي اصطلح عليه بوثيقة البانشاسيلا، وهي عنوان وحدة البلاد ونهضتها” إن المجتمع الاندونيسي سينجح في تحقيق المثل العليا إن شاء الله و باتباع تعاليمه سنحصل على مجتمع عادل ومزدهر يعتمد على بانشاسيلا لبناء دولة الفضيلة و الرحمة و المغفرة.” [46] ولسنا نبالغ عندما نقول إنّ المثالين الماليزي و الإندونيسي هما من أفضل التجارب في الدول الإسلامية المعاصرة مع وعينا التام بأنّ كل تجربة سياسية لا يمكن أن تكون مثالية، ولكن تتنافس الدول على تحقيق أعلى النسب المساواة و العدالة بين مواطنيها” فالمواطنة الكاملة عمليّا غير محقّقة في الواقع، و لا يمكن تحقيقها بشكل مطلق” [47] . غير أنّ المهم في التجربة السياسية، هو “المساواة أمام القانون في الحقوق و الواجبات العامّة” [48] . و قد لا نجادل كثيرا في أنّ جانبا مهما من هذه المبادئ متحققة في التجربتين اللتين نحن بصدد درسهما، فالنهضة الاقتصادية و منوال التنمية الشامل الذي وقع تحقيقه كفيل بأن يؤكّد حقيقة معنى المواطنة في البلدين، إذ لم تظل الأفكار مجرّد نظريات عامة بل كانت ممارسة سياسية واقعية عند محضير بن محمّد عند قيادته لحكومة ماليزيا على مدى أكثر من عقدين من الزمن” واصل محضير بن محمد وعلى مدى 22 سنة من حكمه على رصّ صفوف الشعب و المحافظة على توحيدهم فلا نبالغ إذا أطلق عليه أب الوحدة الماليزية إذ اعتنى بكل شبر من الوطن و بكل فرد منهم فكانت مشاريع التنمية تشكل كل الولايات و الطوائف لتكون التجربة الماليزية نموذجا يحتذى به في الدول العربية” [49]. ولعلّ من أبرز ما حققته التجربة الماليزية هو تجربة الاعتماد على الذات من خلال تشريك المواطن الماليزي في تحمّل أعباء التقدّم، و ضمان حقوقه في تطوير حياته الاجتماعية وبلوغ درجة الرفاهية، و الثابت أن ماليزيا نجحت في هذا الخيار فحارب الفقر، حتى أنها كادت تقضي عليه في السنوات الماضية. ” تعتبر التجربة الماليزية في عملية التنمية الاقتصادية واحدة من أكبر التجارب العالمية الرائدة في مجال التنمية الاقتصادية والنقطة الأساسية التي انطلقت منها ماليزيا هي سياسة الاعتماد على الذات.” [50]. و صورة هذا النجاح تظهر في كثير من الدراسات العلمية التي تناولت التجربتين الماليزية و الإندونيسية، إذ تعتبر ” تجربة مكافحة الفقر في ماليزيا من أبرز التجارب التي تكللت بالنجاح في دول العالم الإسلامي ، فقد استطاعت ماليزيا خلال ثلاثة عقود (1970 – 2000) تخفيض معدل الفقر من 52.4 في المائة إلى 5.5 في المائة أي أن عدد الأسر الفقيرة انخفضت بنسبة عشرة أضعاف مما كانت عليه”[51]. إنّ هذه المنجزات الاقتصادية أو الاجتماعيّة، لا يمكن أن تتحقق إلاّ في إطار من الاستقرار السياسي و من الوحدة الاجتماعية الصمّاء التي يكون فيها كل أفراد المجتمع مواطنين على حدّ السواء، فلا يمكن في مجتمع متعدد مثل المجتمع الماليزي أن تبني نهضة اقتصادية دون أن يكون هناك نظاما سياسيا يقود و يخطط و يوجه و الأوكد من ذلك أنّه يضع المواطنين أمام واجباتهم تجاه بلدهم، يقول أحمد وهبان ” يقاس نجاح الدول في إدارة مجتمعاتها بمدى تمكنها من تحقيق قدر مقبول من السلام الداخلي بين مختلف فئات المجتمع. وفي الوقت الذي يبدو فيه السلام أمرا يسيرا في المجتمعات بسيطة التكوين فإننا نشكك في إمكانية تحقيقه في المجتمعات ذات التركيبة المعقدة، لكن مع وجود قيادة ناجحة و تتمتع بالرضاء الشعبي يمكن تحقيق السلام و الاستقرار حتى مع وجود تعددات عرقية داخل الدولة وهو ما ينطبق على دولة ماليزيا.” [52] .

إنّ هذه الدلائل تتفق على نجح التجربة الماليزية في تحقيق الغائيات و المقاصد التي تعمل من أجلها الدولة المعاصرة، وأهمها تحسين أوضاع مواطنيها، ولا شكّ أن ماليزيا و عبر نهجها السياسي القائم على ثلاثية العدل و المساواة و الحريّة المستمدّة من خزانة الفقه الإسلامي، قد توصلت إلى إيجاد السرّ الذي ينجز به التقدّم و التمدين و العصرنة ” تُعد عملية التنمية في ماليزيا من أبرز قصص النجاح القليلة التي تحققت في كل من آسيا وأفريقيا، وتقوم فلسفة التنمية الماليزية على فكرة مؤداها أن النمو الاقتصادي يقود إلى المساواة في الدخل، بمعنى إيجاد طبقة وسطى تشمل معظم المواطنين، وعليه فإن عوائد التنمية ستنعكس على جميع المواطنين لجهة تحسين حياتهم اليومية، وتوفير الرفاه لهم، مع التركيز بالدرجة الأولى على المواطنين الأكثر فقراً، والعاطلين عن العمل، إذ أشارت الدراسات إلى أنّ زيادة النمو بمعدل (درجة مئوية واحدة) في ماليزيا تؤدي إلى تقليل عدد الفقراء بنسبة تتجاوز ،%3 وهي من أعلى النسب في العالم.”[53]

لا يختلف النموذج الإندونيسي المطبّق فعليّا عن التجربة الإندونيسية، فأن تكون دولة عصرية ومجتمعا متحضّرا، فذلك يعني أن النظام السياسي الذي ينظم العلاقات بين المواطنين، قد ارتقى فعلا إلى مرتبة الأنظمة السياسية العصرية التي يكون فيه للمواطنة الدور الأهم و الأرقى. ويمكن القول إنّ النظام السياسي الإندونيسي المستند إلى مبادئ البانشاسيلا [54] قد نجح فعلا في جعل المجتمع نموذجا للوحدة و التحضّر ، فعلى سبيل المثل فإنّ حريّة التديّن في إندونيسيا هي حقّ لا يمكن التعدّي عليه و ذلك ما تنص عليه كل القوانين في هذا البلد الآسيوي المسلم، ” الخطاب الذي ألقاه سوكارنو أمام جلسة هيئة التحقيق من أجل الأعمال التحضيرية للاستقلال في 1 من جوان 1945 ، حيث قال: المبدأ الخامس أن يكون: تنظيم استقلال إندونيسيا معتمدا على تقوى الله الواحد الأحد. مبدأ الألوهية. ليس فقط أن الشعب الإندونيسي يؤمن بالله، ولكن ينبغي أن يكون لكل مواطن إندونيسي إله. المسيحيون يعبدون الله وفقا لتوجيهات عيسى المسيح، والمسلمون يؤمنون بالله وفقا لتعاليم النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والبوذيون يمارسون عبادتهم وفقا للكتب التي بين أيديهم. ولكن تعالوا جميعا نؤمن بالله. أن تكون دولة إندونيسيا هي دولة يكون كل مواطنها يستطيع أن يعبد الله بكل حرية. كل الناس ينبغي يؤمنوا بالله بطريقة مثقفة أي بدون الأنانية الدينية وأن تكون دولة إندونيسيا هي دولة تؤمن بالله! تعالوا لنقوم بتنفيذ تعاليم الدين، سواء كان الإسلام، أو المسيحية بطريقة مهذبة. ما هي الطريقة المهذبة؟ إنها الاحترام المتبادل بين المواطنين”[55].

إنّ مثل هذا الخطاب من زعيم سياسي مثل أحمد سوكارنو، لم يأت من فراغ بل استند إلى قراءة عصرية للإسلام قادها نخبة من المفكرين الإندونيسيين المتنوّرين من أبرزهم نور خالص ماجد. الذين خاضوا حربا فكرية ضدّ “غلاة” النص الديني، حتى تمكنت إندونيسيا المتعددة من أن تصبح بلدا موحدا وتشق طريق النهضة و التقدّم ، وتقدم نموذجا عصريا لجوهر الإسلام وحقيقته، يقول نور خالص ماجد” إن المسلم باعتبراه فئة من الناس الذين يؤمنون بحقيقة الإله الواحد فهو ملزم بدعوة الإنسانية إلى العودة إلى خالقهم من خلال تنفيذ تعاليمه “الصراط المستقيم” .. في الواقع يمكن دائما ابتداع الأفكار بصيغ برّاقة لاجتذاب الناس ولكن وراء هذه الأفكار البرّاقة هناك شيء أكثر حسما ألا وهو تنفيذها.” [56]

الخاتمة

اعتقادنا راسخ أنّ هذه الورقات لا تفي الموضوع حقّه، فدراسة التجربتين الماليزية و الإندونيسية في جوانبهما السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية، تحتاج بحثا معمّقا وجهدا مشتركا بين مؤسسات بحثية و بين باحثين من مختلف المشارب الفكرية لأنّ هذين البلدين المسلمين، يختصرنا طريق البحث عن النهضة و التحضّر، اللذين عجزنا عنهما في بلداننا العربيّة، ولكنّ السر الذي لا يمكن تجاهله يكمن في أنّ البلدين حققا مفهوم المواطنة على ارض الواقع انطلاقا من رؤية إسلامية متفتّحة و منفتحة، واستنادا إلى ممارسة سياسية إسلامية، لم تكتف بقراءات جامدة للنص الديني، بل إنّها ذهبت إلى المواءمة بين متطلبات العصر و ما أتى به الإسلام في جوهره من رسالة للإنسانية جمعاء. فالمواطنة و الانتماء و الهوية غيرها من المفاهيم الحديثة لم يغفل الإسلام وضع أطر تشريعية لها، وهذا ما اهتدى له كل من محضير بن محمد و نور خالص ماجد، فكانت النتيجة مواطنة متشبعة بروح الإسلام ولكنها لا تنقطع عن مقتضيات العصر و عن الفكر الإنساني الحرّ الذي يسعى لتحقيق العدالة و المساواة. و لا نغفل أنّ التجربتين مرّتا بمعوقات كثيرة أهمها و أخطرها تلك القراءات المنغلقة للدين الإسلامي، والتي ترفض مفهوم المواطنة. فعلمَيْن آسيويين في مكانة محضير بن محمّد و نور خالص جواد، مع اختلاف المواقع التي تمكن كل منهما من ممارسة أفكاره، دافعا عن فكرة المواطنة العصرية التي لا تختلف في صورها و تطبيقاتها عن مفهوم المواطنة “المعلمن”، ومع ذلك فقد تمسّكا به خيارا للمساواة بين الأفراد و لتحقيق العدالة الاجتماعيّة، برغم كل المعارضات التي نشأت في إندونيسيا و ماليزيا التي تنطلق من مرجعية “تفوق” المسلم على غيره من أتباع الديانات الأخرى. وهذا الرأي بات يقتنع به الكثير من أصحاب الفكر العربي المعاصر المستندين إلى قراءة عصرية للنص الديني ، على غرار فهمي هويدي و عبدالوهاب أفندي و محمد عمارة ومحمّد سليم العوّا وغيرهم الذين يدعون إلى تجاوز فكرة “أهل الذمّة” إلى فكرة المواطنة الكاملة، وهذا ما وقع تطبيقه في كل من دولتي إندونيسيا و ماليزيا، وهذا شرط من شروط تقدّم البلدين.

قائمة المصادر و المراجع

1- المصادر

– محضير بن محمّد ، موسوعة محضير بن محمّد، ، دار الكتاب المصري و دار الكتاب اللبناني و دار الكتاب ماليزيا، الطبعة الأولى ،كوالالمبور ،القاهرة، بيروت . 2004 .

– نور خالص ماجد، الإسلام و الحداثة و الشّخصية الإندونيسية، ترجمة ناهد بن سيدهم و أميرة مفتاح و أندري روسادي، و إشراف منصف بن عبد الجليل ، دار ابن عربي ، طبعة أولى ، تونس ،سنة 2021.

2- المراجع

– قرآن كريم

– أحمد محي الدين محمد التلباني ، مقال ” التجربة الاقتصادية الماليزية ، التقويم و الدروس المستفادة” ، نشرته المجلة العلمية لكلية الدراسات الاقتصادية.

– أحمد قائد الشعيبي ، وثيقة المدينة المضمون و الدلالة ، كتاب الأمة العدد 110 ، طبعة أولى ، الدوحة ، سنة 2006.

– أحمد وهبان، الصراعات العرقية واستقرار العالم المعاصر: دراسة في الأقليات والجماعات والحركات العرقية”، دار الجامعة الجديدة للنشر الإسكندرية،. 2003.

– أرسطو طاليس، ( aristote)كتاب السياسة، ترجمة أحمد لطفي السّيد، سلسلة من الشّرق و الغرب، الدار القوميّة للطّباعة والنّشر، القاهرة، د- ت ،

– طارق طيفور ، التجارب التنموية في الدول الصاعدة ، دراسة الحالتين الماليزية و الإندونيسية ، أطروحة دكتوراه ، جامعة الجزائر 3 ، كلية العلوم السياسية ، 2016. ( غير منشورة)

– فهمي هويدي، مواطنون لا ذمّيون ، الطبعة الثالثة، دار الشروق ، القاهرة، سنة1999.

– علي أحمد درج ، مقال : التجربة التنموية الماليزية و الدروس المستفادة منها عربيا، مجلة بابل للعلوم الصرفة و التطبيقية العدد 3 ، العراق ، سنة 2015، المجلد 23.

– علي الصالح مولى، مقال( هل تكون المواطنة مدخلا إلى أخلاقية عربية ناجعة، بحث في وضعنة القيمة) مجلّة تبيّن، العدد 22، المجلّد 6، خريف 2017.

عبد الوهاب افندي ، إعادة النظر في مفهوم الجماعة السياسية في الإسلام، مجلة المستقبل العربي، بيروت ، فيفري 2001، العدد 264 .

– عبد الواحد،عبد الرحيم ، مهاتير محمد بعيون عربية واسلامية، طبعة أولى، دار الاجواء للنشر، الامارات ، 2003 .

– عثمان بن صالح العامر، مقال المواطنة في الفكر الغربي المعاصر ، دراسة نقدية من منظور إسلامي ، مجلة دمشق المجلد التاسع عشر العدد الأول 2003،

– عصمت الرفيع ، مقال” الإسلام والمد والجزر في العلاقات بين الدين والدولة في إندونيسيا “، مجلّة Indonesian Journal for Islamic، STUDIA ISLAMIKA ، Vol. 23, no. 2, 2016

– عماد فوزي الشعيبي، مقال ، إشكاليّة المواطنة بين الحداثة وما بعد الحداثة وما بعدهما”، دمشق ، مركز دمشق للأبحاث والدراسات، سلسلة أوراق دمشق، العدد السادس، سنة 2017.

Margins:

  1. – أرسطو طاليس، ( aristote)كتاب السياسة، ترجمة أحمد لطفي السّيد، سلسلة من الشّرق و الغرب، الدار القوميّة للطّباعة والنّشر، القاهرة، د- ت ، ص 173.
  2. – أرسطو، المرجع ذاته ، ص 189.
  3. – قرآن كريم ، سورة الحجرات: الآية 13.
  4. – حديث نبوي شريف، رواه الإمام أحمد بن حنبل في (باقي مسند الأنصار – رقمه 22391)
  5. – قرآن كريم ، سورة النحل الآية 90.
  6. – قرآن كريم ، سورة النساء الآية 58
  7. – قرآن كريم ، سورة البقرة، الآية 256.
  8. – قرآن كريم، سورة يونس ، الآية 99.
  9. – علي الصالح مولى، مقال( هل تكون المواطنة مدخلا إلى أخلاقية عربية ناجعة، بحث في وضعنة القيمة) مجلّة تبيّن، العدد 22، المجلّد 6، خريف 2017، ص 90
  10. – عماد فوزي الشعيبي، مقال ، إشكاليّة المواطنة بين الحداثة وما بعد الحداثة وما بعدهما”، دمشق ، مركز دمشق للأبحاث والدراسات، سلسلة أوراق دمشق، العدد السادس، سنة 2017، ص 4.
  11. – عماد فوزي الشعيبي ، المرجع السابق،ص 12
  12. – عثمان بن صالح العامر، مقال المواطنة في الفكر الغربي المعاصر ، دراسة نقدية من منظور إسلامي ، مجلة دمشق المجلد التاسع عشر العدد الأول 2003، ص 231.
  13. – المرجع السابق ، ص 232
  14. – محضير بن محمّد ، موسوعة محضير بن محمّد، ، دار الكتاب المصري و دار الكتاب اللبناني و دار الكتاب ماليزيا، الطبعة الأولى ،كوالالمبور ،القاهرة، بيروت 2004، مجلد 9، ج 1 ص 52
  15. – محضير بن محمد ، المصدر السابق، مجلّد 9 ، ج1 ، ص51.
  16. – محضير بن محمّد، المصدر السابق، المجلّد 8 ص 38
  17. – نور خالص ماجد، الإسلام و الحداثة و الشّخصية الإندونيسية، ترجمة ناهد بن سيدهم و أميرة مفتاح و أندري روسادي، و إشراف منصف بن عبد الجليل ، دار ابن عربي ، طبعة أولى ، تونس ،سنة 2021،ص 33
  18. – نور خالص ماجد ، المصدر السابق، ص 73
  19. – نور خالص ماجد، المصدر السابق ، ص 69
  20. – محضير بن محمّد ، المصدر السابق، المجلّد الأول ، ص 321.
  21. – محضير بن محمد ، المصدر السابق ، المجلّد الأول ص 29
  22. – نور خالص ماجد، المصدر السابق، ص 69
  23. – نور ، المصدر السابق، الصفحة نفسها.
  24. – نور ، المصدر السابق ، ص 121.
  25. – نور، المصدر السابق، ص 124
  26. – محضير ، المصدر السابق، المجلد الثاني ، ص 87.
  27. – محضير ، المصدر السابق، المجلّد الأول ، ص29
  28. – نور ، المصدر السابق ، المجلّد الثاني ، ص 81
  29. – نور، ، المصدر السابق، المجلد االثاني ، ص82.
  30. – نور ، المصدر نفسه، المجلّد الثاني ص 80
  31. – نور خالص ماجد، المصدر السابق، ص 53
  32. – نور، المصدر نفسه، ص 69
  33. – نور، المصدر نفسه ، ص 70
  34. – نور، المصدر نفسه، ص 71
  35. – نور ، المصدر نفسه ، ص 155.
  36. – محضير ، الموسوعة، المجلّد الثامن، ص 43
  37. – محضير ، الموسوعة ، المجلّد الخامس ، ص 14 .
  38. – نور خالص ماجد، المصدر السابق ، ص 68
  39. – نور، المصدر السابق، ص 62
  40. ، نور ، المصدر السابق ، ص 63
  41. – محضير ، المصدر السابق ، المجلّد الثامن ، ص31
  42. – فهمي هويدي، مواطنون لا ذمّيون ، الطبعة الثالثة، دار الشروق ، القاهرة، سنة 1999، ص 125
  43. – محضير ، المصدر السابق، المجلد الثامن، ص 39
  44. نور، المصدر السابق، ص 34

    * وجب الإشارة إلى أن نور خالص ، واجه اتهامات بالعلمنة ، من قبل علماء و شخصيات سياسية إندونيسية لأنّه عبّر عن أفكار تدعو للمساواة و العدالة و المشاركة بين المواطنين الإندونيسيين المتعدّدي الأعراق و الديانات و الإثنيات. ( انظر كتابه الإسلام و الحداثة و الشخصية الإندونيسيّة، تونس 2021).

  45. – نور، المصدر السابق ، ص 131.
  46. – نور، المصدر السابق، ص 72
  47. – عبد الوهاب افندي ، إعادة النظر في مفهوم الجماعة السياسية في الإسلام، مجلة المستقبل العربي، بيروت ، فيفري 2001، العدد 264 ص 156.
  48. – أحمد قائد الشعيبي ، وثيقة المدينة المضمون و الدلالة ، كتاب الأمة العدد 110 ، طبعة أولى ، الدوحة ، سنة 2006، ص 50 .
  49. – عبد الواحد،عبد الرحيم ، مهاتير محمد بعيون عربية واسلامية، طبعة أولى، دار الاجواء للنشر، الامارات ، 2003 ، ص 13.
  50. – أحمد محي الدين محمد التلباني ، مقال ” التجربة الاقتصادية الماليزية ، التقويم و الدروس المستفادة” ، نشرته المجلة العلمية لكلية الدراسات الاقتصادية على موقع، https://esalexu.journals.ekb.eg/article_110740_3e41c97e7fa19d1906c39a8bf47a6e3b.pdf، ص 9 .
  51. – علي أحمد درج ، مقال : التجربة التنموية الماليزية و الدروس المستفادة منها عربيا، مجلة بابل للعلوم الصرفة و التطبيقية العدد 3 ، العراق ، سنة 2015، المجلد 23 ، ص 1365
  52. – أحمد وهبان، الصراعات العرقية واستقرار العالم المعاصر: دراسة في الأقليات والجماعات والحركات العرقية”، دار الجامعة الجديدة للنشر الإسكندرية،. 2003، ص 169
  53. – طارق طيفور ، التجارب التنموية في الدول الصاعدة ، دراسة الحالتين الماليزية و الإندونيسية ، أطروحة دكتوراه ، جامعة الجزائر 3 ، كلية العلوم السياسية ، 2016، ص 212
  54. – البانشاسيلا، هي مبادئ خمسة صاغها سوكارنو في 1945 كعقيدة للدولة الناشئة لتجمع الإندونسيين على مختلف مشاربهم والمبادئ الخمسة هي: الإيمان بإله واحد. وإنسانية عادلة ومتحضرة و وحدة إندونيسيا و الديمقراطية تقودها الحكمة الداخلية في توحد ناشئ من المداولات بين الممثلين. و العدالة الاجتماعية لجميع أفراد الشعب الإندونيسي.
  55. – عصمت الرفيع ، مقال” الإسلام والمد والجزر في العلاقات بين الدين والدولة في إندونيسيا “، مجلّة STUDIA ISLAMIKA

    Indonesian Journal for Islamic، Vol. 23, no. 2, 2016 ص 355.

  56. – نور ، المصدر السابق، ص 191